المؤسسات الرسمية ومراكز الفكر والمحللين والأكاديميين في الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والمجتمع الدولي، بشكل عام، يراقبون المشهد في تونس بحذر وتوجس، والجميع يعرب عن قلقه الشديد، ليس على مستقبل الشعب المطحون تحت أرجل الفقر والمرض، ولكن قلقهم على الديمقراطية التونسية التي لا يريدون لها أن تتأثر بقرارات رئيس الدولة قيس سعيد. فيا ترى عن أي ديمقراطية يتحدثون؟
جرت العادة أن تصاحب التحولات السياسية الحادة في تونس الكثير من الأسئلة التي يصعب الإجابة عليها حول شرعيتها وفاعليتها وإمكانية تعافي الدولة من آثارها، لا سيما منذ ثورة ٢٠١٠، التي أطاحت بديكتاتورية بن علي وألهمت سلسلة الثورات التي اصطلح على تسميتها بالربيع العربي. في الوقت الحالي، يدور أحد تلك الأسئلة الصعبة حول قدرة الديمقراطية التونسية على الصمود في وجه القرارات الجذرية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد ضد الرئاستين الموازيتين له في نظام الحكم – البرلمان والحكومة.
للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أولاً التحقق من صحة قضيتين رئيسيتين. الأولى تتعلق بإدعاء كون تونس دولة ديمقراطية من الأساس. والثاني هو ما إذا كانت قرارات قيس سعيد، التي اتخذها بصفته رئيسًا منتخبًا للدولة وفي إطار الصلاحيات الممنوحة له في الدستور، تهدف إلى الإضرار بالدولة التي يرأسها، والتي يعتمد وجوده في السلطة وأمانه الشخصي على استمرار وجودها وسلامتها وأمنها.
في السنوات الأولى التي أعقبت ثورات الربيع العربي، كان الأكاديميون في الغرب ينظرون إلى مصر وتونس باعتبارهما النموذجين الناجحين من بين دول الربيع العربي. لكن سرعان ما تغير رأيهم بشأن مصر بعد الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين من السلطة في عام ٢٠١٣، وفي المقابل ازداد ميلهم للمبالغة في وصف تونس بأنها "الديمقراطية الناجحة الوحيدة في العالم العربي"، ربما لأنها الدولة العربية الوحيدة التي ما زال الإسلاميون قادرون على ممارسة دور سلطة سياسية فيها، ولا نفهم بالضبط لماذا يعتمدون وجود الإسلاميين في السلطة كمعيار لكون الدولة ديمقراطية من عدمه.
اليوم، نفس المحللين، يطلقون صافرات الإنذار بأن الديمقراطية في تونس في خطر كبير لو قام قيس سعيد بطرد الإسلاميين من المشهد السياسي، بل ذهبت بعض الأبواق المؤيدة لأجندة الإسلاميين، على وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، إلى حد اتهام سعيد بأنه ارتكب انقلاباً. في كل الأحوال، وقع هؤلاء المحللين في الخطأ، أو على الأقل كانوا عاطفيين أكثير من اللازم في إصدار أحكامهم على تونس، سواء عندما أدعوا في البداية أنها دولة ديمقراطية أو بينما يدعون الآن أن الديمقراطية المزعومة في خطر.
برر سعيد الإجراءات الصادمة التي اتخذها ضد الحكومة والبرلمان، في يوم الاحتفال بعيد الجمهورية في ٢٥ يوليو، بضرورة السيطرة على المخاطر التي قد تنتج عن تصاعد الاحتجاجات الغاضبة التي اندلعت في جميع أنحاء تونس في ذلك اليوم ضد إخفاقات النظام في إدارة شؤون الدولة وإصلاح الاقتصاد. لم يكن هذا أول احتجاج من نوعه ولا في حجمه يقوم به المواطنون في تونس. المظاهرات مستمرة في الشوارع منذ شهر مارس. فقد أدى نظام الرئاسات الثلاث، الذي يوزع السلطة وعملية صناعة القرار بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة إلى حدوث حالة من الشلل في عملية صنع القرار داخل الدولة، وبالتالي أثر سلباً على الاقتصاد المتدهور أصلاً، وزاد من معاناة المواطنين، خصوصاً في ظل تفشي أزمة انتشار فيروس كورونا في البلاد بنسب مرعبة. أحد الإحصائيات التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء في تونس، وهو جهة حكومية، في عام ٢٠٢٠، تفيد بأن أكثر من ٣٠٪ من الأسر تخشى نفاذ مخزون الطعام لديها.
إن المعركة الإيديولوجية / السياسية الجارية منذ ثورة ٢٠١٠ بين الإسلاميين والعلمانيين ليست هي المحرك الرئيسي للتحولات الحادة التي تجري الآن في تونس على يد رئيس الدولة قيس سعيد. هذا الصراع الأيديولوجي يخص النخبة السياسية ولا يخص الشعب الذي يعاني بسبب فشل هؤلاء السياسيين، الذين تم انتخابهم عبر قنوات الديمقراطية، في خدمة مصالح الشعب الذي انتخبهم. بل أساء كل من الأحزاب الإسلامية والعلمانية التونسية، على حد سواء، استخدام الديمقراطية لتحقيق مصالحهم السياسية الضيقة على حساب معاناة الناس. والآن قررت الجماهير محاسبتهم، وقرر رئيس الدولة، الذي يأتي من خلفية غير سياسية وغير حزبية، الوقوف إلى جانب الشعب في هذه المعركة. هذا باختصار هو حقيقة المشهد الحالي في تونس بعيداً تماماً عن كل من يحاولون تحميله بمعاني أخرى لأغراض سياسية تخص كل من طرفي الصراع النخبوي.
إن الديمقراطية في تونس، المتمثلة في اجراء الانتخابات بشكل منتظم واعتماد دستور مثالي غير قابل للتطبيق في الواقع، قد خذلت الشعب ولم تساهم بأي شكل في تحسين حياة المواطنين. على العكس من ذلك، فقد زادت هذه الديمقراطية من حدة الصراع الأيديولوجي بين فصائل النخبة السياسية ومن ثم زادت من معاناة المواطنين الاقتصادية والاجتماعية. وهذا يجعلها ديمقراطية فاشلة لا يرتجى منها نفع أو خير. لذلك، لا يحتاج العالم أن ينزعج أو يقلق كل هذا القلق بشأن مستقبل الديمقراطية التونسية، بعد قرارات سعيد، ببساطة لأنها ديمقراطية فاشلة، وغيابها لحين يتمكن قيس سعيد من إصلاح المسار، لن يجعل البلاد أسوء مما هي عليه الآن.