انتهت الجولة الأخيرة في معركة مصر مع أثيوبيا، الممتدة منذ خمسة عشر عاماً، بنهاية هزلية، حيث لم تتمكن الحكومة الإثيوبية من ملء بحيرة سد النهضة سوى بثلاثة مليار متر مكعب فقط من الثلاثة عشرة مليار متر مكعب التي كانت تستهدفهم هذا الموسم، بسبب التأخر في بناء حوائط السد وإصلاح عيوب التصميم التي تتسبب في تسرب المياه لو تجاوزت منسوب معين. الكوميديا هنا هو أن حكومة أبي أحمد حشدت الرأي العام من أجل هذا الملأ تحديداً وكأنها تحشد لحرب، ثم في النهاية فشلت في مجرد تنفيذه. على الجانب الآخر من النيل، واصلت الدولة المصرية مشروعاتها التنموية العملاقة، والتي تعتمد بشكل كبير على استمرار تدفق نهر النيل حتى نهايته في البحر المتوسط، واثقة تماماً في أن أحداً لن يستطيع تهديد أمن مصر المائي.
في منتصف شهر يوليو، احتفل الرئيس السيسي بتدشين المرحلة الثانية من مشروع "حياة كريمة" مع عشرات الآلاف من المصريين الذي استفادوا من المرحلة الأولى للمشروع الحكومي العملاق الذي يعمل بميزانية ضخمة على الارتقاء بحياة المواطنين الفقراء في المدن الحضرية والريفية. نجحت المرحلة الأولى من المشروع، في غضون زمن قياسي لا يتجاوز خمس سنوات، في القضاء على ظاهرة العشوائيات التي كانت تحيط بالقاهرة والإسكندرية، وتم نقل المواطنين الذين عاشوا في هذه المساكن العشوائية وعانوا من الظروف غير الآدمية هناك إلى مناطق سكنية مناسبة، كما قامت الحكومة بدعمهم بخطط تضامن مالي تساعدهم على الاستمتاع بالحياة الكريمة الجديدة التي وفرتها لهم الدولة.
تستهدف المرحلة الثانية من مشروع حياة كريمة تحسين الظروف المعيشية لمواطني الريف، من خلال تجديد البنية التحتية للقرى الريفية، التي تمثل أكثر من ٨٠٪ من المساحة الجغرافية المأهولة بالسكان في مصر. يستهدف المشروع إجمالي ٤٥٨٤ قرية بميزانية ضخمة تقدر بـ ٧٠٠ مليار جنيه مصري. لكي تنجح المرحلة الثانية من مشروع حياة كريمة، تحتاج الدولة المصرية إلى تأمين استمرار تدفق نهر النيل إلى منطقة الوجه البحري، تحديداً إلى قرى الدلتا حيث تقع أغلب الرقعة الزراعية لمصر، ومن ثم فإن إصرار الحكومة الإثيوبية على الاستمرار في ملء سد النهضة دون تنسيق مسبق مع مصر والسودان باتفاق ملزم قانونًا يهدد مشروعات التنمية التي تعمل مصر عليها الآن، وهو ما يتطلب وقفة حاسمة من المجتمع الدولي الذي ما زال يتعامل مع الأزمة التي تهدد حياة عشرات الملايين من البشر في مصر والسودان على أنها قضية محلية.
يقترح بعض المحللين في مجال الجغرافيا السياسية أن ملء سد النهضة وتشغيله قد يؤدي في النهاية إلى هجرة جماعية إلى أوروبا للمزارعين في شمال مصر، حيث من المتوقع أن يزداد الجفاف بسبب قلة المياه في هذه الأراضي إلى درجة لا يمكن تحملها. الطريقة الوحيدة لضمان عدم حدوث ذلك هي توقع اتفاقية ملزمة بين أثيوبيا ومصر والسودان تمنع الحكومة الإثيوبية، الحالية أو المستقبلية، من إساءة استخدام سد النهضة لمنع مياه النيل من التدفق الطبيعي إلى دول المصب.
أعلن الرئيس السيسي، في احتفالية حياة كريمة، يوم ١٥ يوليو، عددًا من الرسائل الواضحة والمركزة فيما يتعلق بالصراع القائم حول نهر النيل. اللهجة والتوقيت الذي اختاره الرئيس السيسي للتعبير عن موقفه في هذه الرسائل لا يقل أهمية عن محتوى الرسائل نفسها. إحدى هذه الرسائل موجهة إلى القيادة الإثيوبية، قال فيها السيسي بنبرة هادئة لكن حاسمة: "دعونا نعقد اتفاقًا ملزمًا قانونًا من شأنه أن يجلب الرخاء والأمن والسلام لنا جميعًا. لدينا القوة الاقتصادية والعسكرية التي تمكننا من فرض إرادتنا والدفاع عن مصالحنا. جميع الخيارات متاحة، وسننظر في استخدام كل منها في الوقت المناسب وتبعاً للظروف".
ثم شرح الرئيس السيسي للشعب المصري، بشكل مبسط، جهود الحكومة في التواصل مع المجتمع الدولي والجهود الدبلوماسية التي بُذلت في محاولة حل هذا الصراع، قائلاً: "وضعنا قضية سد النهضة أمام المجتمع الدولي من خلال اجتماع مجلس الأمن... عرضنا تقديم خبرتنا في الزراعة وإنتاج الطاقة للأشقاء في السودان وإثيوبيا، بشرط عدم المساس بحقوق مصر المائية. مصر بلد كبير ولا يليق بنا أن نقلق".
من جانبها، لا تزال الحكومة الإثيوبية تناور من أجل عدم التوقيع على اتفاقية ملزمة تضمن لمصر والسودان حصة في نهر النيل. لا يمكن تفسير العناد الإثيوبي إلا بطريقة سلبية. بمعنى آخر، إذا كانت نوايا إثيوبيا تجاه مصر والسودان حسنة وصادقة، كما زعم أبي أحمد في إحدى تغريداته الأخيرة باللغة العربية، فلماذا لا يريد التوقيع على الاتفاقية إذاً؟ لا ينبغي أن تنظر أثيوبيا أو المجتمع الدولي إلى الصبر الشديد الذي تنتهجه القيادة المصرية بشأن هذه القضية على أنه أمرًا مفروغًا منه أو أنه سيدوم هكذا للأبد.