لقد سقطت أفغانستان في يد حركة طالبان المتطرفة، من جديد. سيستغرق العالم وقتاً طويلاً حتى يتعافى من أثار الصدمة التي أصبحت أمراً واقعاً لا مفر من التعامل معه وتقليل حدة عواقبه قدر الإمكان، خصوصاً بعد الانسحاب الفوضوي للقوات العسكرية التابعة للولايات المتحدة وحلف الناتو، وإصرار الإدارة الأمريكية على عدم تحمل مسؤولية ما حدث وما سوف يحدث. ينذر الوضع المتدهور بسرعة في أفغانستان العالم ككل، والدول العربية خاصةً، بعدد لا نهائي من التهديدات الأمنية، لا سيما بسبب وجود بعض الجهات والأفراد المتعاطفين مع طالبان وفكرها في داخل هذه البلاد.
على الرغم من ذلك، ما يزال كبار القادة السياسيين، في غرب العالم وشرقه، يدورون حول أسئلة ساذجة بشأن طالبان وما إذا كانت قد تخلّت عن عقيدتها الإرهابية لتمارس السياسة المنفتحة على العالم. وكأن هؤلاء السياسيين لم يبلغوا من العمر أو الخبرة ما يكفي ليتذكروا الفظائع التي ارتكبتها حركة طالبان في الماضي، ليس فقط داخل أفغانستان ولكن أيضاً في جميع أنحاء العالم، تحت راية ما يدعون أنه الشريعة الإسلامية.
من بين كل التصريحات المزعجة التي أدلى بها قادة العالم، مثل الاتحاد الأوروبي واليونيسيف، حول تفاؤلهم تجاه حكم طالبان في أفغانستان، برز تصريح واحد بشكل خاص. في مقابلة مع قناة سكاي نيوز، وصف رئيس أركان الجيش البريطاني، نيك كارتر، مقاتلي طالبان بأنهم “أبناء قبائل ريفية” ودعا العالم إلى التحلي بالصبر تجاههم ومنحهم الفرصة لإثبات أنهم “أكثر عقلانية” من طالبان القديمة. المزعج في هذا التصريح، هو أنه من الصعب تخيل أن قائداً عسكرياً، يتمتع بخبرة وذكاء كارتر، يمكن أن يكون قد صدق الأكاذيب التي تنشرها حركة طالبان حالياً حول انفتاحها على إشراك النساء في الحياة العامة والعفو عن الأفغان الذين دعموا قوات الناتو والولايات المتحدة أثناء وجودهم في أفغانستان.
لكن الخبر الجيد، أن عامة الناس في الدول الغربية يمارسون ضغوطًا هائلة على قادتهم السياسيين للتوقف عن إبداء التفاؤل غير المبرر تجاه طالبان، بناءاً على خطاب الحركة الإعلامي المفعم بالأكاذيب. حتى في الولايات المتحدة، فإن غالبية وسائل الإعلام الاجتماعية والتقليدية ثائرة ضد الرئيس الأمريكي بايدن وإدارته بسبب تصريحاته المضللة حول كون "طالبان الجديدة مختلفة عن طالبان القديمة" وأن حكم طالبان هو ما يريده الشعب الأفغاني. في الواقع، فإن عشرات الآلاف من المواطنين الأفغان الذين كانوا يهرعون إلى مطار كابول، منذ أكثر من أسبوع، ويتشبثون بعجلات الطائرات، هو أكبر دليل على أن الشعب الأفغاني خائف من طالبان، ولا يرغب ولم يختر أن يعيش تحت سطوتهم.
لكن، مع الأسف، ليس هذا هو الحال مع عموم الجماهير في الدول العربية، حيث ظهر في الفترة الأخيرة قطاع عريض من المواطنين المتعاطفين مع طالبان والمبررين لها مواقفها السياسية وتطرفها الديني. وقد شهدت هذا بنفسي في داخل مصر على الأقل. أغلب هؤلاء من المنتمين إلى أو المتعاطفين مع التيار السلفي أو جماعة الإخوان المسلمين، حيث يظنون أن عودة طالبان بخطابها المتطرف عن الجهاد في سبيل الله وتفسيرهم المتشدد للشريعة الإسلامية، سوف يعزز من موقف الجماعات الإسلامية بشكل عام، لأنهم يتبنون خطاباً دينياً وسياسياً مشابهاً، وبالتالي قد يعيد ذلك شرعيتهم في أعين البسطاء بعد فترة ضعف وخفوت.
لكن ما وجدته شخصيًا أمر صادم إلى أقصى حد، هو بعض المثقفين المصريين والعرب، وأغلبهم ينتمي لليسار، الذين صفقوا لصعود طالبان، ووصفوها بأنها حركة مقاومة تحدّت الإمبريالية الأمريكية. وكأن كراهيتهم العقائدية تجاه أمريكا قد أعمت أعينهم وأصمت أذانهم عن إدراك بشاعة الحقيقة التي يمثلها هيمنة حركة طالبان، وهي ميليشيا دينية متطرفة تحمل السلاح في وجه المدنيين وتمارس القتل والقهر تحت راية الإسلام، على بلد معقد تاريخياً وجغرافياً وسياسياً مثل أفغانستان. موقفهم هذا ذكرني بعشرات الكتاب العرب الذين هللوا لتنظيم القاعدة وأسامة بن لادن بعد أن أرتكب جريمة ١١ سبتمبر في نيويورك، وكان دافعهم هو التشفي في أمريكا لا أكثر.
ألم يدرك هؤلاء أن أيديولوجية طالبان المتطرفة أقوى من أن تتخلى عنها، تحت ضغوط سياسية، حتى لو أظهرت عكس ذلك في الوقت الحالي؟ عاجلاً أم آجلاً، ستظهر طالبان للعالم وجهها الحقيقي، وهو وجه قبيح يخضبه الدم وترسم ملامحه القسوة. على يد طالبان، سوف تتحول أفغانستان إلى قطعة من الجحيم، تسكنها التنظيمات الإرهابية من كل شكل ولون، وستطير حمم هذا الجحيم عالياً وبعيدًا لتحرق أكبر عدد ممكن من البلدان في شرق العالم وغربه. مع الأسف، فإن الدول العربية، وخاصة تلك التي تضم متعاطفين مع خطاب طالبان المتطرف، ستكون أولى المتضررين.