في العقد الماضي وحده، مرت تونس بعدة تحولات سياسية متطرفة. تبرز ثلاثة منها على أنها أكثر نقاط التحول حسماً، هي: ثورة الربيع العربي ضد نظام بن علي الاستبدادي في عام ٢٠١١؛ تنحي الإسلاميين عن الحكم استجابة لاحتجاجات شعبية في عام ٢٠١٣؛ والموت المفاجئ للرئيس الباجي قائد السبسي، وسط حالة من المعاناة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي في عام ٢٠١٩. المثير للدهشة أن الدولة التونسية تمكنت من تجاوز كل هذه التحولات السياسية الكبرى وتعافت منها بشكل سريع. على الرغم من ذلك، تنتشر هذه الأيام بعض التوقعات المتشائمة عن فشل الدولة في تونس، عقب القرارات المفاجئة والحاسمة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد، في عيد الجمهورية، قبل أيام معدودة.
في خطوة مباغتة، ليلة الأحد ٢٥ يوليو، استخدم سعيد، الذي عمل أستاذا للقانون والدستور لعقود، الصلاحيات الممنوحة له بموجب المادة ٨٠ من الدستور التونسي للاستحواذ على جميع سلطات الدولة المدنية والعسكرية. برر سعيد هذا التحرك بوجود حاجة ملحة لمواجهة الخطر الداهم الناتج عن الاحتجاجات الشعبية الحاشدة التي انطلقت في جميع أنحاء تونس صباح ذلك اليوم، ضد إخفاقات الحكومة والبرلمان في إدارة شؤون الدولة، لا سيما في ظل التدهور المستمر للوضع الاقتصادي. إن فهم الدوافع التي أدت بالرئيس قيس سعيد لإعلان هذه الحرب الضارية ضد الحكومة والبرلمان، رغم كونهما جزء من النظام السياسي الذي يحكم البلاد من خلاله، هو أمر ضروري لتقييم الموقف في تونس والإجابة على سؤال إذا ما كانت تونس ستنجو من هذا التحول السياسي الضخم، هذه المرة أيضًا.
كخطوة أولى، قرر سعيد تعليق السلطات الموازية التي تحكم البلاد جنبًا إلى جنب معه، حيث أقال رئيس الوزراء وجمّد أعمال البرلمان، لأن الدستور يمنعه من حله. يجب أن نذكر هنا أن حزب النهضة الإسلامي هو الذي يسيطر على السلطة التشريعية في البلاد عبر البرلمان. بعد ذلك، أصدر سعيد الأوامر بإقالة وزراء الدفاع والداخلية والعدل، وأعلن حظر التجول ووقف جميع الأنشطة الحكومية والتجارية، باستثناء تلك المرتبطة بالأمن والرعاية الصحة والمؤسسات التعليمية.
فور اتخاذ هذه القرارات، خرج الإسلاميون التونسيون، والنشطاء الداعمون لهم من جماعة الإخوان المسلمين، بتصريحات عجيبة، عبر منصات السوشيال ميديا وبعض وسائل الإعلام المتعاطفة مع الإسلاميين مثل قناة الجزيرة القطرية، زعموا فيها أن قرارات قيس سعيد هي "انقلاب ضد الإسلاميين"، وتستهدف القضاء على الحزب الإسلامي في البلاد. حتى أنهم حاولوا مقارنة ما يحدث حاليًا في تونس بما حدث في مصر في يونيو ٢٠١٣، عندما اضطر الجيش للتدخل استجابة لاحتجاجات عشرات الملايين لإزاحة نظام الإخوان المسلمين من السلطة.
يا لسخافة هذه المقارنة وانعدام المنطق فيها! ناهيك عن اختصار المشهد الصعب جداً الذي تمر به تونس الآن في مجرد معركة أيدولوجية بين قيس سعيد والإسلاميين في حزب النهضة، على خلاف الواقع والمنطق. إن ادعاء أن قيس سعيد قد تحرك بهذا الشكل، وخاطر بمستقبل دولة وشعب يصل قوامه إلى ١١ مليون مواطن، فقط ليكيد خصومه من الإسلاميين، هو مجرد سذاجة تنطوي على تجاهل متعمد لمناشدات الشعب التونسي، التي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، لعمل إصلاح سياسي يستطيع وضع حد لمعاناة المواطنين الاقتصادية.
بمعنى آخر، يجب على المهتمين بالشأن التونسي النظر إلى ما يجري الآن من أحداث بأعين سياسية وليس أيدولوجية. المسألة ببساطة هي أن وقف البرلمان واتخاذ مثل هذه الإجراءات الجذرية كان أمراً ضرورياً لتحريك عملية صناعة القرار التي تعطلت لفترة طويلة بسبب تضارب الرؤى السياسية بين السلطات الثلاث التي يتشكل منها نظام الحكم في تونس.
بعد ثورة ٢٠١١، خوفًا من الوقوع مرة أخرى في أسر سلطوية الدولة العميقة، قام التونسيون بابتداع نظام حكم مختلف عن الأنظمة الرئاسية أو البرلمانية المألوفة، في دستورهم الجديد. يقوم نظام الحكم في تونس منذ ذلك الحين على موازنة عملية صناعة القرار بين ثلاث سلطات – أو "رئاسات" كما يسميها التونسيون – وهي: رئيس الدولة، رئيس الوزراء (رئيس الحكومة)، ورئيس البرلمان (رئيس السلطة التشريعية).
من الناحية النظرية، قد يبدو نظام "الثلاث رئاسات" نظام ديمقراطي مبتكر يشمل الجميع ولا يستثني أحداً. ولكن من الناحية العملية، فقد ثبت أنه نظام صعب التطبيق وأدى بالفعل لشلل الدولة وزاد من معاناة المواطنين. على مدار ثلاث سنوات، منذ انتخاب قيس سعيد، لم تستطع تونس تحقيق أي تقدم ملموس في ظل ثلاثة رؤساء، يحمل كل منهم أجندة سياسية ورؤية مختلفة تماماً عن الآخر، بل وأحياناً متناقضة ومتضاربة فيما بينها. وصل الصراع بين الرئاسات الثلاث في تونس ذروته في منتصف شهر مارس، بطريقة أدت إلى حدوث شلل تام في عملية صناعة القرار السياسي وأثرت بشكل سلبي على الوضع الاقتصادي في البلاد، مما أدى لخروج المواطنين في احتجاجات حاشدة تطالب بالإصلاح.
إذاً مع كل ما سبق ذكره، هل تستطيع تونس المنهكة بالفعل أن تنجو من الاضطرابات السياسية الحادة التي تمر بها الآن، مثلما سبق وتجاوزت مثيلاتها في السنوات العشر الماضية؟ هذا سؤال يصعب الإجابة عليه بينما ما زالت الأحداث تتكشف. لكنني متفائلة. وفي كل الأحوال، يكفي لنا الآن أن نفهم أن مشكلة تونس أكبر وأعمق بكثير من وجود جماعة الإخوان المسلمين في السلطة، وألا نعطي الفرصة لإخوان تونس أن يلعبوا على نفس وتر المظلومية الذي سبق وعزف عليه إخوانهم في مصر.