كم كان مريحاً وجميلاً أن نرى العراق ينهض من جديد ويستعيد دوره الريادي في منطقة الشرق الأوسط، من خلال مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، الذي عُقد في العاصمة العراقية يوم ٢٨ أغسطس وجمع قادة دول المنطقة، بعد ثمانية عشر عاماً تحول فيها العراق إلى مرتع للتنظيمات الإرهابية من كل شكل ولون، وساحة حرب بين قوى دولية وإقليمية، طامعة في ثروات العراق أو راغبة في تصفية الحسابات مع أعدائها على أرض بعيدة عنها.
هذا الأسبوع، استطاع العراق الجديد جمع كل هذه القوى، الصديق منها والمُعادي، على مائدة واحدة للتحاور بشأن مستقبل المنطقة في ظل التطورات الأخيرة، وتداعيات الانسحاب الأمريكي من المنطقة والذي بدأ بانسحاب فوضوي وغير مسؤول من أفغانستان في منتصف أغسطس. في غرفة واحدة جمع العراق العرب مع الفرس والأتراك، وهي مهمة لا يستطيع أحد سوى العراق القيام بها.
جاءت قمة بغداد في وقت حرج للغاية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط التي تعيش حالة من الذعر جراء تبعات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي دفع دول المنطقة، بما فيهم العرب وإيران وتركيا، إلى وضع خلافاتهم جانباً والتقارب والتنسيق من أجل التصدي للمخاطر الأمنية العديدة المتوقع ظهورها الفترة القادمة، خصوصاً في ظل الأحداث التي تتدهور بشكل أسرع من أي توقعات منذ الاستحواذ السريع والسهل لحركة طالبان على السلطة في أفغانستان.
في أقل من أسبوعين، بدأت التنظيمات الإرهابية في جمع شتاتها واللجوء إلى أفغانستان كنقطة انطلاق لاستئناف أعمالهم التخريبية حول العالم. قبل ثلاثة أيام فقط من الموعد المقرر لسحب كامل القوات الأمريكية والحليفة من أفغانستان، في ٣١ أغسطس، قام تنظيم داعش – ولاية خرسان، الذي يعمل من شرق أفغانستان، بتنفيذ تفجيرين في محيط مطار كابل أوديا بحياة المئات، من بينهم جنود أمريكيين. هذا بالطبع سيضاف كنقطة سوداء لسجل إدارة بايدن، التي حاولت تبيض وجهها بتهنئة العراق على المؤتمر الذي لم تشارك فيه، وتطلب استمرار الحوار الاستراتيجي معه.
وصلت التحركات الدبلوماسية بين دول المنطقة أوجها في مؤتمر بغداد، لكنها مستمرة بشكل مكثف منذ بداية الأزمة في أفغانستان. في أسبوع واحد، استطاعت الإمارات فتح صفحة جديدة من العلاقات مع أقوى منافسيها الإقليميين، تركيا وقطر. توجت هذه المساعي بلقاء جمع بين الأمير تميم، أمير قطر، والشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء الإماراتي، على هامش قمة بغداد.
في نفس القمة أيضاً، التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع الأمير تميم، لأول مرة بعد أربع سنوات من المقاطعة الدبلوماسية والمعارك الإعلامية التي شاركت فيها مصر ضمن التحالف العربي الذي كان يحاول الضغط على قطر للتخلي عن دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، آنذاك. يمثل الاجتماع بين الزعيمين ذروة التقارب الدبلوماسي البطيء نسبيًا الذي يجري العمل عليه منذ توقيع اتفاق العلا للمصالحة الخليجية في يناير. بالتوازي مع ذلك، تتردد أنباء عن إعادة إحياء عملية المصالحة المتوقفة بين مصر وتركيا، في وقت قريب.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن جهود إنهاء العداء التاريخي بين السعودية وإيران هي أيضاً تسير في اتجاه إيجابي، خصوصاً أن بعض التقارير الإعلامية ذكرت أن محادثات على المستويين الأمني والاستخباراتي قد تمت بالفعل بين البلدين في مارس. كما كان مثيراً أن نرى السعودية وإيران جالسين في غرفة واحدة، أثناء انعقاد مؤتمر بغداد، والذي حرص فيه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على إلقاء كلمته باللغة العربية الفصيحة، في رغبة واضحة من إيران لتجاوز الصراع التاريخي بين الفرس والعرب، وفتح صفحة جديدة مع جيرانها، لا سيما في دول الخليج.
على الرغم من كل ذلك، تغطي سمائنا سحابة ثقيلة من الخوف والتوجس ونحن نشاهد المنطقة والعالم كله يتغير، ولا نعرف إن كان هذا التغير للأفضل أم للأسوأ. نظرًا لموقعه الجغرافي الاستراتيجي ومساحته الشاسعة وتاريخه الطويل مع الصراعات الحديثة في منطقة الشرق الأوسط، فإن العراق اليوم هو بمثابة حائط الصد الرئيسي في مواجهة كل التهديدات المستقبلية، سواء كانت تلك الناجمة عن النشاط الإرهابي المتوقع أن يشتد إثر التطورات الصادمة في أفغانستان، أو حتى بفعل التدخلات الأجنبية الغير مرغوب فيها في شئون المنطقة. منذ فجر التاريخ، أمن المنطقة مرتبط تماماً بأمن العراق، كل سقوط لبغداد ساهم في انهيار جزء من قوة واستقرار الإقليم، وكل نجاح تحققه بغداد يمتد هو قيمة مضافة إلى إنجازات المنطقة ومستقبلها.