Saturday, March 27, 2021

أردوغان و ماكرون واستنساخ الحروب الصليبية بين أوروبا والشرق

 


تشكل حالة الخصومة الشخصية المتنامية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطر كبير على أمن واستقرار منطقة شرق البحر المتوسط، التي تعاني من توترات سياسية وعسكرية كبيرة منذ ما يقارب العام، إذ يتعمد الرئيسان اقحام الاختلاف العقائدي بين الإسلام والعلمانية في صلب خلافاتهما السياسية من أجل تأجيج المشاعر الشعبية وكسب الدعم، ليس فقط في المعركة المباشرة التي يخوضاها ضد بعضهما، ولكن أيضاً في التمهيد لمعاركهم الانتخابية المنفصلة داخل فرنسا وتركيا، والتي بدأت بالفعل.  

بدأت الصراعات بين أنقرة وباريس، منذ أكثر من عام، على خلفية تضارب مصالح كل من تركيا وفرنسا في حوض شرق المتوسط، وحجم تدخلات كل منهما في الصرعات القائمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما الحرب الأهلية التي كانت دائرة في ليبيا، والتي تدخلت فيها تركيا في ديسمبر ٢٠١٩ بدعوى من حكومة الوفاق التي كانت تحكم المقاطعات الغربية في البلاد آنذاك، والتي وقعت مع تركيا اتفاقيتين: اتفاقية عسكرية، سمحت لتركيا بالتدخل العسكري في البلاد وجلب المرتزقة من أماكن الصراع في منطقة الشام إلى قلب طرابلس، واتفاقية بحرية أعطت تركيا بعض الوقت والمساحة للالتفاف حول بنود القانون الدولي والضغط على اليونان من أجل استعادة حقوقها المفقودة في البحر المتوسط منذ توقيع اتفاقية لوزان في عام ١٩٢٣.

اعتبرت فرنسا الاتفاقية البحرية التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق الليبية تهديد غير مباشر لمصالحها في شرق المتوسط، خصوصاً فيما يتعلق بثروات الغاز في هذه المنطقة، والذي يمثل شريان حياة لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لفرنسا كما هو مهم بالنسبة لتركيا أيضاً، مما دفع ماكرون للتدخل في الصراع القائم في شرق المتوسط بين تركيا واليونان، بعيداً عن حدود بلاده بآلاف الكيلومترات، تحت إدعاء حماية اليونان كدولة أوروبية ضد تركيا غير الأوروبية. 

من ثم أطلق ماكرون حملة مكثفة للضغط على الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على تركيا، تحت عنوان مبادرة "السلام المتوسطي" ولكن لم يستجب الاتحاد الأوروبي لضغوط فرنسا، حتى يومنا هذا، نظراً للأهمية الجيوسياسية والأمنية التي تمثلها تركيا بموقعها الجغرافي الفريد بالنسبة لأوروبا، كخط دفاع أمامي ضد المتاعب الكثيرة القادمة من الشرق الأوسط باتجاه أوروبا، وأهمها احتواء ملايين اللاجئين من دول الربيع العربي وخطر تسرب التنظيمات الإرهابية من الشرق الأوسط إلى أوروبا.

لكن، منذ أكتوبر ٢٠٢٠، تحول الصراع بين أنقرة وباريس، بشكل تدريجي، من معارك إعلامية حول قضايا سياسية ومصالح إقليمية متنافرة إلى معارك غير شريفة تتخذ من الاختلاف الديني العقائدي وقوداً لها. 

من جانب، ظهر الرئيس التركي أردوغان في هذه المعركة الكاذبة على أنه خليفة المسلمين في العالم، وأنه المدافع الأول عن الإسلام في مواجهة أوروبا، وفي القلب منها فرنسا، التي يتهمها أردوغان بـ "الإسلاموفوبيا"، على الرغم من كونها أكبر دولة أوروبية من حيث عدد المسلمين بها، والذي يصل عددهم إلى أكثر من ستة مليون مواطن أغلبهم من أصول عربية من دول شمال أفريقيا. في خضم هذا الصراع، دعا أردوغان إلى مقاطعة البضائع الفرنسية بعد نشر رسوم مسيئة للنبي محمد في إحدى المجلات الفرنسية المتطرفة، وانضم لتركيا في هذه الدعوة عدد من الدول الإسلامية والعربية، منها دول كانت على خلاف سياسي مع تركيا، آنذاك، مثل السعودية ومصر.

على الجانب الآخر، يباهي ماكرون في هذه المعركة الخائبة بكونه نصير العلمانية وإمام الحريات التي تصل أحياناً لحد محاربة كافة مظاهر التدين حتى في الممارسات الشخصية للأفراد. في خضم هذا الصراع، أعاد الرئيس الفرنسي تجديد حملة حكومية كان قد دعى إليها في فبراير ٢٠٢٠، بعنوان محاربة "الانفصالية الاسلامية"، والتي اعتبر فيها أن ممارسة المسلمين الفرنسين لشعائرهم وقيمهم الدينية بشكل منفصل عن قوانين وقيم المجتمع العلماني الفرنسي هو أمر يتناقض مع قيم الحرية والمساواة التي تؤمن بها فرنسا، ويجعل المجتمعات الإسلامية الصغيرة داخل المجتمع الفرنسي الكبير بمثابة مصانع لإنتاج المتطرفين ونشر الإرهاب في أوروبا. 

الجديد الذي قدمه ماكرون في إعادة دعواه لمحاربة "الانفصالية الإسلامية"، بعد خلافه مع أردوغان، هو أنه اتهم تركيا بشكل مباشر بأنها هي المسؤولة عن التطرف الذي أصاب مجتمعات المسلمين في فرنسا، حيث قال ماكرون أنه سيسعى بالتدريج لوضع حدود لكبح النفوذ الأجنبي على المواطنين المسلمين داخل بلاده، في إشارة صريحة إلى الأئمة والمشايخ الذين يتم إرسالهم بواسطة تركيا، ودول شمال أفريقيا، إلى فرنسا للتدريس والوعظ في مدارس ومساجد المسلمين، وقال إن أغلب هؤلاء الأئمة محملين بأجندات سياسية تستهدف الدولة التركية نشرها في المجتمع الفرنسي. 

المزعج في الأمر، أن هذا الخلاف بين أردوغان وماكرون قد بدأ يتجدد منذ أسبوعين، بعد أن اتهم ماكرون تركيا بقيامها بمحاولات للتدخل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية العام القادم، وأرجع ذلك للتأثير الكبير لتركيا على مجتمعات المسلمين المنغلقة على نفسها داخل فرنسا، والتي يتمتع الأئمة الوافدين من تركيا بنفوذ كبير عليها، وهو ما رفضته تركيا في بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية، واعتبرتها تصريحات خطيرة وغير مقبولة من الرئيس الفرنسي.

من المتوقع أن تتفاقم تلك الصراعات الإعلامية بين أردوغان وماكرون، والتي تعتمد على ابراز الاختلافات العقائدية بين الإسلام والعلمانية، بشكل كبير خلال الأشهر القادمة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، المقرر عقدها في فرنسا عام ٢٠٢٢ وفي تركيا عام ٢٠٢٣، مع الأخذ في الاعتبار بالطبيعة المجتمعية لكل من فرنسا وتركيا، التي تلعب فيها النزعات القومية دور مهم في رسم المسار السياسي للدولة واختيارات المواطنين لممثليهم السياسيين. 

لهذا يجب الحذر، وتوعية الرأي العام بشكل مكثف الفترة القادمة، من أن المعركة بين أردوغان وماكرون ما هي إلا معركة خطابية سياسية، يحاول كل طرف فيها كسب شرعية زائفة عبر استغلال الانتماءات العقائدية للشعوب، بشكل قد يؤجج صراعات دينية غير مرغوب فيها، ويعيد الحياة إلى التنظيمات الإرهابية الإسلامية والجماعات المتطرفة العلمانية، بشكل يمثل إعادة استنساخ للحروب الصليبية التي عانت منها أوروبا والشرق، خصوصاً منطقة شرق البحر المتوسط في العصور الوسطى، ولكن بشكل جديد يتماشى مع قوانين الحروب في عصرنا الحالي.