بدأت المصالحة بين مصر وتركيا تتبلور في صورة خطوات فعلية على أرض الواقع، بعد أشهر من التصريحات الإيجابية بين الطرفين، حيث قامت تركيا في ١٨ مارس باتخاذ خطوة في غاية الأهمية تبين صدق نوايا تركيا تجاه مصر، وهي أن قامت الدولة التركية بمراجعة موقفها من دعم عناصر جماعة الإخوان المسلمين وبعض المرتزقة المصريين الذين يصفون أنفسهم بالمعارضة ويمارسون مهنة الإعلام، ويعيشون على الأراضي التركية، منذ هروبهم من مصر عقب إزاحة نظام الإخوان المسلمين من الحكم في يونيو ٢٠١٣. وقد طلب المسؤولين الأتراك منهم، بشكل صريح، التوقف عن استخدام منصاتهم الإعلامية التي تعمل من إسطنبول، في الهجوم على الدولة المصرية والرئيس المصري، وهو ما أصابهم بحالة من الذعر حول المصير الذي ينتظرهم، في حالة تم الصلح بين مصر وتركيا على مستويات دبلوماسية أو سياسية أكبر.
تعد هذه البادرة الطيبة التي اتخذتها تركيا بتحجيم المنصات الإعلامية المعادية لمصر على أراضيها، خطوة أولى مهمة جداً وكبيرة أيضاً تجاه إقامة علاقات سوية ومثمرة مع مصر. في حقيقة الأمر، ليس لدى مصر خلاف مباشر مع تركيا، بالعكس بين الشعبين المصري والتركي الكثير من المشتركات الثقافية والتاريخية، وبين الدولتين الكثير من المصالح الاقتصادية والسياسية والتقارب الجغرافي، الذي يجعلهما شريكين لا ضدين. خلاف المصريين الرئيسي مع تركيا يتمحور حول استضافة الرئيس أردوغان لعناصر جماعة الإخوان المسلمين وإصراره طيلة سنوات على الاستمرار في دعم أجندتهم المعادية لمصر.
من المعروف أن تركيا تستضيف ملايين اللاجئين السياسيين على أراضيها، من جنسيات عربية وغير عربية، لكنها أبداً لم تفرد هذه المساحة الإعلامية الضخمة، والتمويل السخي الذي يُعتقد أن أغلبه يأتي من قطر، إلا للمرتزقة المصريين الذين يصفون أنفسهم بقوى المعارضة، بينما هم مجرد خليط عجيب من عناصر جماعة الإخوان المسلمين، وعناصر ميليشيا حسم التابعة للإخوان، وبعض النشطاء السياسيين المعروفين ببيع ضمائرهم لمن يدفع أكثر، ومجموعة من الشخصيات الإعلامية والفنية التي فشلت في تحقيق أي تواجد مؤثر في الإعلام المصري وقرروا السفر للعمل في تركيا من خلال هذه القنوات طمعاً في تحصيل شعبية أو أرباح مالية لم يستطيعوا تحقيقها في مصر.
ليس سراً أن الخلافات السياسية الكبيرة بين الرئيس التركي أردوغان والرئيس المصري السيسي، التي نشأت بسبب دعم الرئيس أردوغان، غير المفهوم وغير المبرر، لجماعة الإخوان المسلمين في مواجهة الرئيس السيسي الذي حاربهم ووقف لهم بالمرصاد حين حاولوا النيل من أمن واستقرار مصر، كانت هي السبب وراء هذا الدعم الكبير الذي قدمته تركيا لهذه المجموعة من المصريين اللاجئين إليها، والذي مكنهم من مخاطبة الرأي العام الداخلي في مصر، عبر منصاتهم الإعلامية في إسطنبول، بخطاب مضلل وتحريضي وصل أحياناً لحد تشجيع الناس على قتل ضباط الشرطة والجيش والاعتداء على زوجاتهم وبناتهم.
لقد دفعت تركيا ثمناً كبيراً، من جراء دعمها طيلة هذه السنوات لهذا الخطاب التحريضي، وهذا الثمن ليس فقط أموال صرفت على استضافتهم أو أنشطتهم الإعلامية، ولكنه يتمثل أيضاً في عشرات الفرص الاقتصادية التي كان من الممكن أن تكسبها كل من تركيا ومصر، وعشرات المشكلات الإقليمية التي كان من الممكن أن تتشارك البلدان على حلها، فقط لو كان بينهما علاقة سوية ومستقرة. إن دعم تركيا للإخوان في مقابل خسارة علاقتها مع مصر طيلة السنوات الماضية هو السبب الحقيقي في العزلة السياسية التي تعاني منها تركيا اليوم في محيطها الإقليمي، وهو السبب كذلك في تعقد موقف تركيا في شرق المتوسط، وهو السبب أيضاً، وإن كان بدرجة أقل، في تدهور الوضع الاقتصادي اليوم في داخل تركيا.
هناك توقعات، أو ربما أمنيات، لدى بعض المصريين بأن تركيا سوف تقوم بتسليم المصريين المذكورين إلى الدولة المصرية من أجل محاسبتهم، خصوصاً ان عدد كبير منهم مدان في قضايا جنائية داخل مصر بالفعل. لكن الواقع يقول أن هذا أمر أقرب للمستحيل، ولن تتمكن الدولة التركية من فعله بهذه البساطة، حتى برغم توافر النية لديها للتخلص من عبء الإخوان، لأنه لو فعلت تركيا ذلك فسوف تعرض نفسها لمسائلات دولية، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق اللاجئين، وقد يحدث ذلك زلزال في ملف اللاجئين داخل تركيا بشكل عام لدرجة قد تثير الكثير من المشكلات في العلاقات التركية الأوروبية، والتي تسعى تركيا الآن بكل كد للحفاظ عليها وتقويتها معتمدة تحديداً على دورها الإقليمي في ملف استضافة اللاجئين، خصوصاً القادمين إليها من دول عربية.
أغلب الظن أن تركيا سوف تصنف المصريين الموجودين لديها إلى ثلاث فئات وتتعامل معهم على هذا الأساس. الفئة الأولى، هي عناصر ميليشيا حسم التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وهؤلاء قاموا بالقتل وارتكاب أعمال عنف استهدفت مسؤولين بالدولة المصرية، وبالتالي لن تستطيع تركيا إلا أن تسلمهم إلى مصر لمحاسبتهم، ولن يؤثر ذلك على صورة تركيا كدولة مضيفة للاجئين، بل على العكس فإن إيواء هؤلاء الإرهابيين على أراضيها أمر يضر أمن الشعب التركي وأمن أوروبا أيضاً. الفئة الثانية، وهم الشخصيات الإعلامية أو السياسية المعروفة، سواء كانوا من عناصر جماعة الإخوان المسلمين أو النشطاء السياسيين أو الفنانين، وهؤلاء سوف تخيرهم تركيا بين أمرين، إما البقاء في تركيا دون السماح لهم بممارسة أي عمل إعلامي، على المنصات التقليدية أو الافتراضية، يمكنهم من مواصلة الهجوم على الدولة المصرية، أو الخروج من تركيا والسفر إلى أي بلد أخر، وفي هذه الحالة سيكون اختيارهم المفضل على الأرجح هو بريطانيا التي ينعم فيها أعضاء جماعة الإخوان بمعاملة حكومية خاصة. أما الفئة الثالثة، فهم الشباب الأقل شهرة، والذين خاضوا خلافات كبيرة الفترة الماضية مع قيادات القنوات المصرية في إسطنبول، وهؤلاء ربما ترحلهم تركيا إلى مصر بضمير مرتاح لأنه أصلاً ليس لهم أوراق تحميهم، والقيادات الإخوانية هناك تخلت عنهم منذ فترة بالفعل.
أياً ما يكون قرار تركيا بعد التفاوض مع مصر بشأنهم، فإن كل ما يهم المصريين في كل ذلك، هو إسكات هؤلاء المرتزقة والإرهابيين عن استهداف مصر وأمنها واستقرارها بالتحريض المستمر وتزييف الرأي العام، عبر منصات إعلامية تتخذ من الأراضي التركية مقراً لها، وهذا ما بدأت تركيا في عمله بالفعل، ونتمنى أن تستمر فيه.