يراقب العالم عن كثب التقارب الدبلوماسي المكثف بين مصر وتركيا، خلال الشهر الماضي، بعد أن أبقت الخلافات السياسية بين القاهرة وأنقرة البلدين في حالة تباعد وتنافر لما يقرب من ثماني سنوات. ولكن في النهاية، وجدت الدولتان نفسيهما مضطرتين للتقارب والتعاون، ليس فقط طمعاً في مكتسبات محتملة من تحالفهما، ولكن أيضًا نظراً لاحتياجهم لبعضهما البعض في تهدئة المياه المضطربة في محيط كل منهما، سواء كانت مياه شرق المتوسط أو مياه نهر النيل.
من ناحية، فإن الشاغل الرئيسي لتركيا، في الوقت الحالي، هو تسوية نزاعاتها التي استمرت قرابة القرن مع اليونان وقبرص حول ترسيم الحدود البحرية في بحر إيجة والبحر المتوسط، والتي تسببت فيها معاهدة لوزان، الموقعة عام ١٩٢٢ تحت ضباب الحرب، والتي تمنع تركيا من التمتع بحقها الأساسي في الاستفادة من موارد قاع البحر، على الرغم من حقيقة أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك أطول خط ساحلي في شرق المتوسط. ونتيجة لذلك، لا يمكن لتركيا التنقيب عن الغاز، الذي يمثل توفيره مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعب التركي، إذ أنه في كل عام، تدفع تركيا أكثر من ٤٠ مليار دولار لاستيراد الغاز التي تأتي به من عدة دول أهمها إيران وروسيا.
على مدار العامين الماضيين، نشطت تركيا بشكل خاص في هذا الملف، واستخدمت كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في محاولات يائسة للحصول على حقوقها في البحر المتوسط. في ديسمبر ٢٠١٩، قررت تركيا التدخل سياسيًا وعسكريًا في ليبيا، على أمل أن يمكنها ذلك من تحسين وضعها في النزاع على الحدود المائية في شرق المتوسط. ثم في صيف ٢٠٢٠، بدأت تركيا في إرسال سفن بحثية للتنقيب عن الغاز في المناطق المائية المتنازع عليها، مما أثار توترات عسكرية مع الجارتين اليونان وقبرص، وأدى لجذب قوات بحرية أخرى من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة إلى حوض البحر المتوسط بشكل يهدد أمن واستقرار دول المنطقة.
وسط هذه الفوضى، نجحت اليونان في إقناع مصر بتوقيع اتفاقية بحرية تحدد منطقة اقتصادية خالصة، تتقاطع مع المنطقة البحرية التي تم تحديدها في الاتفاقية العرفية التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق في ليبيا، عام ٢٠١٩. اعتادت مصر، لزمن طويل، على رفض طلبات اليونان بتوقيع أي اتفاقيات بحرية معها احترامًا لتركيا. ولكن هذه المرة، قررت مصر توقيع الاتفاقية البحرية مع اليونان، في أغسطس ٢٠٢٠، مدفوعة بالحاجة إلى تأمين أمنها القومي الذي هددته تركيا من جهة الشمال في البحر المتوسط، ومن جهة الغرب في ليبيا.
أدى الاتفاق البحري بين اليونان ومصر وأيضاً تشكيل منظمة غاز شرق المتوسط، التي لم تنضم إليها تركيا، إلى زيادة تعقيد وضع تركيا في البحر المتوسط. ولكن مع بداية عام ٢٠٢١، قررت مصر تخفيف حدة المواجهة مع تركيا، سواء في ليبيا أو في المتوسط. قررت مصر، في مارس، تحديد أنشطة التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط بحيث تبقى بعيدة عن المنطقة التي تعينها تركيا بشكل أحادي كحدود لجرفها القاري، على الرغم من أن بإمكان مصر الاستفادة من هذه المنطقة بموجب الاتفاقية الموقعة بينها وبين اليونان. وقد حظي احترام مصر لحدود الجرف القاري لتركيا بترحيب حار من وزير الدفاع التركي خلوصي أكار.
قال خلوصي أكار، يوم ٦ مارس، كرد فعل على موقف مصر: "إن احترام مصر لجرفنا القاري أمر مهم. لدينا العديد من القيم التاريخية والثقافية المشتركة مع مصر. تفعيل هذه القيم يمكن أن يحدث فرقا في العلاقات في الأيام المقبلة" وألمح أيضاً ضرورة إبرام اتفاقية بحرية بين تركيا ومصر في المستقبل القريب. كما هو متوقع، أثارت تصريحات خلوصي أكار الكثير من الجدل في المنطقة، وخاصة لدى اليونان وقبرص، لكنها لقيت استحسانًا في مصر، على عدة مستويات. فعلى الرغم من كون أكار جزء من نظام أردوغان بما هو معروف عنه من تطبيقات سياسات خارجية معيبة، إلا أن ن خلوصي أكار يحظى باحترام كبير ويثق كثيرون في كلمته. وقد كانت تصريحات خلوصي أكار، الشرارة التي أطلقت جولة من التصريحات الإيجابية من الجانبين وفتحت الباب أمام خطوات فعلية تجاه المصالحة التي طال انتظارها بين القاهرة وأنقرة.
من ناحية أخرى، فإن الشاغل الرئيسي لمصر، في الوقت الحالي، هو تسوية الصراع مع أثيوبيا على مياه نهر النيل، وما يشكله سد النهضة الأثيوبي، الذي تأسس عام ٢٠١٠، من تهديد على حياة المصريين. إن إصرار إثيوبيا على ملء السد، رغم الاعتراضات المشروعة من دول وادي النيل الأخرى، وخاصة مصر دولة المصب، يمثل تهديدًا خطيرًا على حياة الشعوب خصوصاً الشعبين المصري والسوداني. على مدى عامين، كانت مصر تضغط بقوة على المجتمع الدولي، دون جدوى، لمنع إثيوبيا من المضي في بناء السد وملئه. في ١٦ مارس، سحبت الولايات المتحدة نفسها بشكل غير مباشر من القيام بدور الوسيط بين مصر والسودان وإثيوبيا. وقد جادل بعض المراقبين بأن الخلاف الدبلوماسي الحالي قد يتصاعد إلى صراع عسكري بين إثيوبيا ومصر والسودان، حيث أنه في بداية مارس، وقعت مصر والسودان اتفاقية تعاون عسكري تمكن البلدين من توحيد قواهما العسكرية لمواجهة التهديدات الإقليمية.
في غضون ذلك، ألمحت تركيا إلى أنها على استعداد للتدخل كوسيط في أزمة سد النهضة، إذا أرادت مصر ذلك. يوم ١٢ مارس، قال مبعوث أردوغان الخاص إلى العراق في مقابلة تلفزيونية إن تركيا مستعدة للوساطة في سد النهضة، بشرط عدم تدخل الدول الغربية، لأن تدخلها قد يعقد الأمر. وفي الحقيقة، فإن تركيا قادرة فعلاً على إحداث فارق في أزمة سد النهضة، حيث تتمتع تركيا بنفوذ سياسي واقتصادي هائل على إثيوبيا منذ زمن طويل. وفقًا للإحصاءات الرسمية لهيئة الاستثمار الإثيوبية، تعد تركيا ثالث أكبر مستثمر في الأعمال التشغيلية لدولة إثيوبيا، بعد الصين والسعودية. وعلى مدى السنوات السبع الماضية، دعمت تركيا إثيوبيا في ملفات سياسية عدة، أهمها صراعها مع مصر بشأن سد النهضة، بسبب الخلاف السياسي الطويل الذي كان قائماً طيلة هذه السنوات بين القاهرة وأنقرة. وبالتالي، إذا تحسنت العلاقة بين مصر وتركيا وأصبحا حلفاء، أو على الأقل لو تمكنت مصر من تحييد دور تركيا في أزمة سد النهضة، فمن المؤكد أن هذا سيعطي اليد العليا لمصر في مفاوضاتها مع إثيوبيا، بما يمكنها من حل واحتواء مشكلة السد بشكل حاسم ونهائي.
"سو أيور" أو "لينام الماء" هو تعبير يستخدمه الأتراك للتعبير عن الرغبة في دفع الشر بعيداً وإعطاء القوة للخير. إذا نجحت القاهرة وأنقرة في تسوية الخلافات السياسية التي أبعدتهما عن بعضهما ثماني سنوات، فقد يغير تعاونهما المستقبلي الجغرافيا السياسية لشرق المتوسط ويبدل حال العديد من الصراعات القائمة في إفريقيا والشرق الأوسط. ولكن الأهم من ذلك أنه قد يساعدهم على العمل معًا على جعل "الماء ينام" بطريقة تخدم أمنهما القومي ورفاهية شعوبهما.