لا زالت المعركة محتدمة بين قيادات جماعة الإخوان المسلمين على جسد الجماعة الذي يحتضر. حتى هذه اللحظة اقتصرت المعركة على تبادل التصريحات الإعلامية بين جبهة ابراهيم منير ومقرها لندن وجبهة محمود حسين ومقرها إسطنبول، حيث استخدم كل جانب سلطاته المزعومة في الإعلان عن سحب سلطات الطرف الآخر. لكن يشير الخبراء إلى أن هذا الوضع الساخن قد يتصاعد إلى أعمال عنف فعلية في أي لحظة، إذ قد يحاول محمود حسين وزملائه أعضاء مكتب الشورى المنحل اغتيال إبراهيم منير، الذي نصب نفسه قائم بأعمال المرشد، حتى أن بعض المواقع الإخبارية قد ذكرت أن منير شدد الحراسة الشخصية المرافقة له تحسباً لإقبال إخوانه الأعداء على اغتياله.
إن الاستخدام المحتمل للعنف في المعركة الحالية بين قادة الإخوان المسلمين يعيد إلى الأذهان مسألة دور الشباب داخل الجماعة، ويجعلنا نتساءل أين يقف شباب الجماعة من معارك القيادات، وهل يستطيع أي من طرفي الصراع حشد شباب الإخوان المحبطين للغاية إلى صفهم؟
بينما استغرق قيادات جماعة الإخوان المسلمين، طيلة السنوات السبع الماضية، منذ الإطاحة بهم من حكم مصر، في التقاتل على مواقع نفوذ واهية داخل تنظيمهم المحتضر، فقدت الجماعة الآلاف من أعضاءها وقواعدها الشعبية والمتعاطفين معها، معظمهم من شباب الإخوان، الذين أصيبوا بصدمة من الفشل السياسي الذي وقع فيه قادتهم أثناء حكم مصر، فضلاً على فرارهم من المواجهة وهروبهم، مخلفين وراءهم الشباب والقواعد ليدفعوا ثمن هذا الفشل.
وفق ما هو موثق في محاضر الشرطة وسجلات المحكمة، أرتكب عناصر الإخوان من الشباب والمتعاطفين معهم بين القواعد الشعبية المتأثرة بالخطاب السلفي المتطرف، في الفترة ما بين ٢٠١٣ و٢٠١٥، ما يزيد على الثلاثة آلاف جريمة، تتراوح بين أعمال شغب وعنف متوسطة الحدة إلى قتل عمد لمدنين وتخريب منشآت تابعة للدولة، بهدف خلق حالة من الفوضى التي لا يمكن السيطرة عليها والتي تجبر القيادة السياسية المصرية الجديدة للرئيس السيسي، آنذاك، على السعي إلى تسوية سياسية مع قيادات الجماعة، على غرار الوضع الذي نعمت به الجماعة في ظل نظامي السادات ومبارك. تولى الشباب بشكل رئيسي تنفيذ أعمال العنف هذه على الأرض، بينما تولى التمويل والتخطيط القيادات الوسطى للإخوان، الذين بقوا في مصر بعد أن هرب كبار القادة إلى خارج البلاد أو تم القبض عليهم قبل فرارهم.
في أعقاب الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين من السلطة في عام ٢٠١٣، قرر حوالي ستمائة عضو شاب الاستقالة من الجماعة وتصميم حزب إسلامي سياسي خاص بهم، وقالوا إن خطوتهم الجريئة هي تمرد على السياسات المعيبة لقادة الجماعة التي أدت إلى الإطاحة بالإخوان المسلمين من السلطة. في ذلك الوقت، كشف الشباب المنشق لوسائل الإعلام عن رفضهم الانصياع لأوامر القادة بممارسة العنف وإحداث الفوضى في أرجاء مصر. لكن بعد سنوات قليلة، اختفت هذه المجموعة من شباب الإخوان المسلمين المنشقين دون أن يتركوا أثرًا وراءهم، مما يثير الشكوك في أن ظهورهم في ذلك التوقيت كان مجرد مناورة تكتيكية من قبل الإخوان المسلمين لضمان البقاء السياسي داخل مصر، بعد نجاح قوات الأمن في السيطرة على العنف الذي أرادوا إشاعته.
في غضون ذلك، قرر عدد كبير من شباب الإخوان، يقدر بنحو أربعة آلاف عضو، اتباع طريق الجهاد العنيف للتعويض عن فشل الجماعة السياسي. لم يكونوا مدفوعين فقط بصدماتهم النفسية المتتابعة تجاه قياداتهم، ومن ثم الحاجة إلى إثبات قدراتهم كجيل جديد داخل الجماعة، خصوصاً في أعين القواعد والأتباع. بل الأهم من ذلك، أنهم أرادوا الحفاظ على تدفق التمويل من الموارد الخارجية إليهم، وليس إلى القادة، من خلال إظهار أنهم القوة الضاربة والفاعلة الوحيدة داخل الجماعة وليس القيادات الذين هربوا إلى خارج مصر.
شكّل بعضهم ميليشيات صغيرة نسبياً، مثل حركة حسم، وبدأوا العمل داخل مصر حتى تم القبض عليهم في عام ٢٠١٥، وهرب بعضاً منهم إلى تركيا. إلا أن غالبية هؤلاء قد فروا من مصر للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في بلاد الشام وشرق أفريقيا. في مطلع شهر أكتوبر، أعلنت السلطات السودانية اكتشاف والقبض على خلية إرهابية تابعة لتنظيم داعش، يقودها شاب مصري كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف شباب من الإخوان بين صفوف تنظيم داعش في دول أخرى في المنطقة، منها سوريا وليبيا، وحتى في سيناء.
حتى العدد القليل من شباب الإخوان الأوفر حظاً، الذين تمكنوا من الفرار من مصر على ذيول قياداتهم، إلى تركيا أو قطر، هم أيضاً يعانون مثل أقرانهم بسبب ظلم واستغلال قيادات الجماعة لهم. وفقًا لمقاطع فيديو قاموا بنشرها مؤخراً، يبدو أن القيادات كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، حيث أخفوا وثائق السفر الخاصة بهم، وعطلوا إجراءات حصولهم على اللجوء، من أجل إجبارهم على العمل بمقابل مادي محدود. وعندما حاولوا التمرد على القيادات باستخدام منصات التواصل الاجتماعي، طُردوا من وظائفهم التي تدفع لهم أجور زهيدة، وانتهى الأمر ببعضهم للنوم على أرصفة إسطنبول. كما أن الإجراءات التقييدية الأخيرة التي اتخذتها السلطات التركية للحد من أنشطة الإخوان المسلمين على أراضيها، في إطار عملية المصالحة مع مصر، قد ضاعفت من معاناتهم، حيث أن معظمهم حاصل على جوازات سفر مصرية منتهية الصلاحية، وبالتالي لا يمكنهم الخروج من تركيا إلى دولة أخرى، على الأقل ليس عبر طرق السفر الشرعية.
كان محمود عزت هو الشخص الوحيد، في الهيكل المنهار لجماعة الإخوان المسلمين، الذي استطاع احتواء الشباب الغاضب والمحبط في داخل الجماعة، بعد ٢٠١٣. لقد أحبوه لدرجة أنهم وقفوا إلى جانبه ضد قيادة إبراهيم منير في لندن. بالنسبة لهم، كان عزت هو المرشد الفعلي للجماعة. اعتمد عزت على شباب الإخوان في عمل لجان اليكترونية واسعة التأثير ساهمت بشكل أو بأخر في إيهام الجمهور المحلي والدولي بأن الجماعة ما زالت نشطة ومؤثرة. عندما نجحت قوات الأمن المصرية أخيراً في القبض على محمود عزت، في أغسطس ٢٠٢٠، أضعف ذلك بشدة إرادة شباب الجماعة المتمرد ضد قياداتهم.
في أغسطس ٢٠١٩، سرب شباب الإخوان، من داخل السجون في مصر، رسالة مكتوبة بخط اليد موجهة إلى القيادة السياسية المصرية. في الرسالة، طلبوا من السلطات منحهم فرصة ثانية لمراجعة أفكارهم عن الجهاد العنيف، تمهيداً للعفو عنهم وإعادة دمجهم في المجتمع المصري كمواطنين مسالمين. وكتبوا في مقدمة الرسالة أن هذه مبادرة شبابية لا علاقة لها بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، التي وصفوها بـ "البعيدين وغير المكترثين". ومع ذلك، لم تلق نداءاتهم آذاناً صاغية لدى القيادة السياسية المصرية للرئيس السيسي المعروفة بموقفها الثابت ضد جماعة الإخوان المسلمين، فقد سبق وتجاهل الرئيس السيسي العديد من عروض المصالحة والتسوية من قبل قادة الإخوان الفارين، في السنوات الخمس الماضية.
من هذا المنطلق، لن نستغرب لو عرفنا أن غالبية القواعد الإخوانية، خاصةً الشباب، سعداء بالمعركة الدائرة بين قيادات الجماعة في الخارج، لما قد يحمله ذلك من أمل في انهيار القيادة القديمة، التي خذلتهم بفشلها المتكرر واستغلتهم أكثر من مرة، إلى غير رجعة، وبالتالي فتح المجال أمام قيادة شابة أكثر حيوية وقدرة على المناورة السياسية لتجديد الدماء في عروق الجماعة المحتضرة، لكن يبقى السؤال المهم هل من بين شباب الإخوان الحاليين من لديه القدرة على تولي القيادة وإعادة الحياة للجماعة بعد انهيار القيادات المتوقع في المستقبل القريب؟ حتى الآن، لا أرى من هو أهل لذلك، خصوصاً في ظل توجه أغلب شباب الجماعة لمنهج الجهاد العنيف وكفرهم الصريح بجدوى العمل السياسي.