أحتفل الرئيس عبد الفتاح السيسي مع أعضاء السلطة القضائية بأول عيد موحد للقضاء المصري، والذي سبق وقرر الرئيس في يونيو الماضي، أثناء اجتماعه مع وزير العدل ورؤساء الهيئات القضائية، أن يتم الاحتفال به في الأول من أكتوبر، كل عام، تقديراً لمكانة ودور السلطة القضائية في حفظ ميزان الحياة السياسية في مصر، من خلال تحقيق العدالة وإعلاء سلطة القانون فوق الجميع.
تعد مصر من أوائل الدول في العالم، وأول دولة في منطقة الشرق الأوسط، تؤسس نظام قضائي مستقل داخل إطار الدولة الوطنية بمفهومها الحديث. حيث ظهر في مصر أول نظام قضائي علماني، أي غير معتمد بشكل حصري على نصوص الشريعة الدينية ويمارس الحكم فيه رجال الدين، في فترة غزو الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت (١٧٩٨ – ١٨٠١)، حيث قامت الحملة بتنصيب علماء مصريين في مناصب القضاة ليحلوا محل القضاة العثمانين الذين كانوا يعملون عبر ما عرف وقتها باسم "المحاكم الشرعية"، تحت سلطة الدولة العثمانية. وعلى مدار أكثر من قرن، أخذ العمل القضائي في مصر يتطور حتى وصل لمرحلة من النضوج أتاحت إعلانه كسلطة مستقلة في فترة ما بعد ثورة ١٩١٩.
أُعلن استقلا القضاء عن السلطة التنفيذية في الدولة لأول مرة في تاريخ مصر، في دستور ١٩٢٣، والذي خصص فصل للقضاة، نص فيه على أن "القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في القضايا." وهو الأمر الذي لم تتخلى عنه أي من الدساتير اللاحقة لذلك، بما فيها الدستور المعمول به حاليا، دستور ٢٠١٤، والذي ينص بشكل صريح على استقلال السلطة القضائية ويعتبر التدخل في شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم. كما يمنح الدستور المصري المعمول به حالياً للسلطة القضائية حق الإدارة الذاتية لشئونها المالية والإدارية، حيث ينص الدستور على أن "كل جهة أو هيئة قضائية تقوم على شئونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة، يناقشها مجلس النواب بكامل عناصرها، وتدرج بعد إقرارها في الموازنة العامة للدولة رقمًا واحدًا، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المنظمة لشئونها."
صدق الرئيس السيسي حين قال، في كلمته أثناء الاحتفال بيوم القضاة، وقبل ذلك أثناء حلف اليمين عقب انتخابه في ٢٠١٨، أن احترام استقلال القضاء وعدم التدخل في شئون القضاء هو "قاعدة ذهبية لا نحيد عنها." لقد كانت مسألة استقلال السلطة القضائية عنصر حاسم في الحفاظ على تماسك واستمرارية الدولة الوطنية، من خلال ضمان الانتقال السلس للسلطة في مراحل سياسية وأمنية شديدة التعقيد، كان أقربها مرحلة ما بعد إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين في ٢٠١٣، والذي لعبت فيه المحكمة الدستورية العليا، بقيادة المستشار عدلي منصور، آنذاك، الدور الأهم في دعم أواصر الدولة لحين صياغة دستور وتعيين سلطة تنفيذية جديدة تأتي عبر انتخابات وليست مفروضة بقوة الأمر الواقع.
كما كان لاستقلال القضاء دور لا يستهان به في الدفع بأهمية الحق في الممارسة الديمقراطية للمواطنين واختيار من يمثلهم في إدارة الدولة، حتى في أوقات لم تتوفر فيها البيئة المناسبة لذلك. برز هذا الدور تحديداً عندما تولي القضاء مهمة الإشراف على الانتخابات، والتي بدأت بالإشراف على الانتخابات التشريعية في عام ٢٠٠٥، تحت حكم مبارك، وكان للقضاة دور استثنائي في كشف التلاعب والتزوير الذي جرى في هذه الانتخابات، ونتج عنها "حركة استقلال القضاة" التي كانت عنصر دعم مهم للحركات السياسية التي أدت إلى ثورة يناير بعد ذلك. كما استمر الدور المهم للقضاء في الإشراف على الانتخابات التي جرت في مرحلة ما بعد ثورة يناير وحتى اليوم.
وفي عهد الرئيس السيسي، تطور عمل السلطة القضائية فيما يخص دعم الممارسة الديمقراطية، من مجرد الاشراف على الانتخابات، لتكوين هيئة وطنية دائمة تعني بإدارة وتنظيم كافة الأعمال المتعلقة بإجراء الانتخابات. يكفينا فخراً أن مصر واحدة من بين تسع دول فقط على مستوى العالم لديها إشراف قضائي كامل على الانتخابات، بما يضمن نزاهتها ويضمن تحقيق إرادة المواطنين عبر القنوات الشرعية لاختيار ممثليهم في السلطة، بما يسهم في النهاية في الحفاظ على الدولة الوطنية ويقويها.
إن للسلطة القضائية المصرية دور عظيم في تطوير البناء الديمقراطي في مصر، نظراً لما تتمتع به من استقلالية عن السلطة التنفيذية، ونظراً أيضاً لتوافر الإرادة السياسية في دولة الرئيس السيسي لتمكين القضاء من ممارسة دوره، وتوفير كافة الإمكانيات الإنشائية والمادية والتكنولوجية التي يحتاج إليها القضاء لتطوير منظومة العدالة بشكل حقيقي يليق بحالة التطوير الشاملة التي تتميز بها الجمهورية الجديدة. لكن يجب الانتباه إلى أن تطوير قدرات الأفراد، خاصة الموظفين المعاونين للهيئات القضائية، هو أمر ضروري للغاية لنجاح هذه المهمة، ولا يعني ذلك تزويدهم بمهارات وأدوات جديدة فقط، ولكن أيضاً تنقيتهم من العناصر التي ما زالت تمارس فساد مشهود حتى اليوم، خصوصاً في الدوائر التي يكون فيها تعامل مباشر مع المواطنين بشكل يومي. وربما يكون ذلك هو التحدي الأكبر على الإطلاق في مسألة تطوير المنظومة القضائية، لكن نعلم أيضاً أنه أمر مهما كانت صعوبته فهو ممكن وضروري.