على الرغم من مرورهما بعشرات المحادثات والمفاوضات الفاشلة، ليس لدى الجارتين التركية واليونانية خيار آخر سوى الاستمرار في الاعتماد على القنوات الدبلوماسية لحل النزاع القائم بينهما منذ عقود. الأسبوع الماضي، في ٢٦-٢٧ مايو، عقدت تركيا واليونان اجتماعًا، على الانترنت، ضمن مجهودات بناء الثقة بين الدولتين. في غضون ذلك، التقى خبراء أتراك ويونانيون، يومي ٢٥ و٢٨ مايو، في ولاية أدرنة التركية، لمناقشة الحدود البرية بين تركيا واليونان. هذه هي الجولة الرابعة من المحادثات بين أثينا وأنقرة، منذ استئناف محادثاتهما، في يناير، بشأن النزاع على الحدود البحرية في شرق البحر المتوسط.
جاء استئناف المحادثات الاستكشافية بين تركيا واليونان، في يناير، بعد خمس سنوات من المقاطعة الدبلوماسية اختتمت باشتعال توترات عسكرية استمرت ستة أشهر في شرق البحر المتوسط. في يوليو ٢٠٢٠، قررت تركيا، التي سئمت على ما يبدو من بطأ القنوات الدبلوماسية، إرسال سفينة الأبحاث الزلزالية "أوروتش رئيس" إلى المياه المتنازع عليها بين تركيا واليونان، بحثًا عن الغاز الطبيعي. جاءت هذه الخطوة بعد أشهر قليلة من توقيع اتفاقية بحرية بين تركيا وليبيا شملت المنطقة البحرية المتنازع عليها بين اليونان وتركيا.
كما كان متوقعًا، شعرت اليونان بالتهديد من تحركات تركيا، وبالتالي قررت أن تدافع عن نفسها، حيث وقعت اليونان اتفاقية بحرية مع مصر تحدد المنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين في البحر المتوسط. المنطقة المحددة في الاتفاقية اليونانية المصرية تشمل المنطقة المحددة في الاتفاقية التركية الليبية، وبالتالي أفسدت شرعيتها. نتيجة لذلك، بدأت اليونان وتركيا في حشد السفن الحربية والغواصات والمروحيات ضد بعضها البعض في البحر المتوسط وبحر إيجه. في وقت قصير، تحول البحر المتوسط إلى منطقة حرب مع قدوم القوات الأجنبية من أوروبا وروسيا وأمريكا والخليج العربي لدعم أي من طرفي الصراع، تحت ستار إجراء تدريبات عسكرية مشتركة.
هذا المشهد الجنوني لم يتوقف إلا في شهر ديسمبر عندما تم إعلان فوز الديمقراطي جوزيف بايدن برئاسة الولايات المتحدة، بعد معركة انتخابية ضارية ضد ترامب. لا يخفي بايدن بغضه للرئيس التركي أردوغان، وانحيازه لليونان وقبرص في نزاعاتهما مع تركيا في البحر المتوسط. في الوقت نفسه، تم استبدال حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، التي وقعت الاتفاقية البحرية مع تركيا، بحكومة مؤقتة أخرى. عندها فقط، وجد الطرفان المتصارعان نفسيهما مضطرين إلى وضع أسلحتهما جانبًا والجلوس للتحدث والتفاوض من جديد.
الجولة الحالية من المحادثات بين تركيا واليونان هي الجولة الثانية والستين، منذ عام ٢٠٠٢، التي يتم عقدها بهدف مناقشة الجرف القاري لتركيا وترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة بين تركيا واليونان. حتى في أوج التوترات العسكرية بين البلدين، في الصيف الماضي، تم إجراء محادثات فنية بين الجيشين. ومع ذلك، لم تؤدي كل هذه الجولات من المحادثات الاستكشافية والمحادثات الفنية ومحادثات بناء الثقة إلى أي حل حقيقي للصراع. وقد انعكس ذلك بوضوح في المعركة اللفظية التي نشبت على الهواء مباشرةً بين وزيري خارجية تركيا واليونان، خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب اجتماعهما الأخيرة في أنقرة، في شهر أبريل.
أيضاً، ليس هناك ما يجعلنا نتفائل بأن المحادثات الحالية بين تركيا واليونان قد تؤدي إلى أي حل عملي للصراع. والسبب في ذلك هو أن جوهر الصراع لم يتم تناوله قط. لا يتعلق جوهر الصراع بفصل المنطقة الاقتصادية الخالصة أو الحدود البحرية بين الدولتين. ولكن، يتعلق الأمر بحاجة تركيا المتزايدة للغاز الطبيعي كمصدر رئيسي وربما وحيد للطاقة. إن توفير الغاز الطبيعي هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لتركيا، التي تستهلك ميزانية قدرها ٥٠ مليار دولار سنويا لشراء الغاز من روسيا وإيران وأذربيجان.
تركيا هي الدولة ذات الحدود الأطول في البحر المتوسط الغني بالغاز، لكنها لا تزال غير قادرة على البحث عن الغاز هناك بسبب اتفاقية وقعت في العشرينيات تحت ضباب الحرب. لعقود قبل عام ٢٠٠٢، نادرًا ما كانت تركيا تناقش أو تعترض على اتفاقية لوزان. لكن اكتشافات الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، دفعت تركيا للضغط من أجل حقوقها في موارد قاع البحر. وقد حفز هذا أيضًا معظم تحركات تركيا السياسية والعسكرية في منطقتي شمال إفريقيا والشرق الأوسط، طوال العقد الماضي.
منتصف هذا العام، ٢٠٢١، تكون معظم عقود الغاز الطبيعي التي وقعتها تركيا مع جيرانها، قد انتهت أو على وشك الانتهاء، بما في ذلك عقود استيراد الغاز طويلة الأجل مع الموردين الرئيسيين مثل أذربيجان وإيران. إضافة إلى ذلك، تثير المعارك العسكرية التركية المستمرة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وشمال سوريا توترات مع كل من روسيا وإيران، وقد يؤثر ذلك على تجديد تركيا لعقود توريد الغاز معهم. هذا فضلاً على أنه تم استبعاد تركيا من منظمة شرق البحر المتوسط للغاز، منذ تأسيسها في عام ٢٠١٩. ونتيجة لذلك كله، قد تلجأ تركيا إلى تكرار الضجيج الذي أحدثته في البحر المتوسط، الصيف الماضي، ولو حدث هذا فسوف يشكل انتكاسة، ليس فقط في العلاقات التركية اليونانية، ولكن أيضًا في علاقات تركيا مع كل الأطراف المؤثرة الأخرى في شرق البحر المتوسط وشمال إفريقيا.
لتجنب صيف مشتعل آخر في البحر المتوسط، يجب معالجة جوهر المشكلة من قبل جميع الأطراف المعنية، على المستويين الإقليمي والدولي. جوهر القضية، هنا، هو التوصل إلى ترتيب تضامني أو حل عادل يساعد تركيا على تلبية احتياجاتها الضخمة من الغاز الطبيعي، كمصدر أساسي للطاقة. بغض النظر عن حب أو كراهية بعض الدول أو القيادات الأخرى لنظام أردوغان، هناك أكثر من ٨٢ مليون إنسان تركي، بالإضافة إلى أكثر من أربعة ملايين لاجئ، يجب التفكير في مصيرهم عند النظر في هذه القضية.