تعمل مصر جاهدة لضمان ألا يكون وقف إطلاق النار الأخير بين إسرائيل وحماس هشًا ومؤقتاً مثل ما سبقه من تسويات مماثلة. لعل أفضل استراتيجية لترسيخ وقف إطلاق النار هي التوصل إلى حل عملي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني برمته، حل مبني على أرضية صلبة، تتمثل في إعطاء الأولوية لتوفير الأمن والاستقرار والاحتياجات الإنسانية للمدنيين، على المصالح الأنانية والضيقة للقادة السياسيين. ومن ثم، فإن الخطوة الأهم التي يجب اتخاذها في هذا الاتجاه هي وضع حد للصراعات الداخلية بين الفصائل السياسية الفلسطينية، وتوحيد رؤيتهم حول مستقبل فلسطين والسلام مع إسرائيل.
بعد إحدى عشر يومًا من حرب الصواريخ المتهورة بين إسرائيل وحماس، والتي اندلعت في منتصف شهر مايو، تمكنت مصر من التوسط في تسوية اتفاق لوقف إطلاق النار بين الطرفين، مما أنقذ آلاف الأرواح البريئة من الموت أو التشريد، حيث كانت تلك المعركة هي الأكثر تدميراً بين الإسرائيليين والفلسطينيين. بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، قُتل أكثر من ٢٥٠ فلسطينيًا وجُرح ما لا يقل عن ١٩٠٠ وتعرضت أكثر من ألفين عائلة للتشريد. على الجانب الآخر، أعلنت خدمة الاستجابة للطوارئ الإسرائيلية مقتل ١٢ إسرائيليًا.
تم وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس بشكل متبادل ولم يكن مقيداً بأي شروط أو ضمانات، لكن جهاز المخابرات العامة المصرية أرسل وفدين أمنيين، واحد إلى تل أبيب والآخر إلى غزة، لمراقبة التزام الطرفين بالتنفيذ. وفي غضون ذلك، تعهد الرئيس المصري بمواصلة العمل الجاد من أجل التوصل إلى حل سلمي مستدام للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
في ١٨ مايو، أعلن الرئيس السيسي، عقب القمة الثلاثية التي جمعته مع الرئيسين الأردني والفرنسي في باريس، تخصيص ٥٠٠ مليون دولار لإعادة إعمار غزة. وفي ٣ يونيو، دخل موكب ضخم من المعدات والآليات والمهندسين والعمال المصريين إلى غزة من أجل البدء في مشروع إعادة إعمار البنية التحتية وأكثر من ١٢ ألف منزل تضرر خلال الاقتتال الأخير. وتم استقبال الموكب بترحيب حار من قبل قيادات حماس، وأيضاً من قبل المواطنين في غزة، الذين تجمعوا بأعداد كبيرة للتلويح بالعلم المصري وترديد هتافات حباً في مصر.
في الوقت نفسه، تجرأت الدولة المصرية على مد أذرعها الأمنية والدبلوماسية إلى داخل صندوق باندورا الخاص بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بحثًا عن وسائل فاعلة لإحياء محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في ٣٠ مايو، زار وزير الخارجية الإسرائيلي القاهرة بدعوة من نظيره المصري لبحث وقف إطلاق النار مع حماس وآفاق السلام المحتملة، وكانت هذه أول مرة يزور فيها وزير خارجية إسرائيلي القاهرة منذ عام ٢٠٠٨. وفي اليوم التالي، يوم ٣١ مايو، قام مدير جهاز المخابرات العامة المصرية بزيارة نادرة لحركة حماس، لم تحدث منذ مطلع الألفينيات، وتوجه بعدها مباشرةً لزيارة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولقاء عدد من الكتل السياسية الفلسطينية هناك.
لم يقتصر الغرض من زيارة مدير المخابرات المصرية إلى غزة والضفة الغربية على مناقشة وقف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة. لكن كان الهدف الرئيسي هو نقل رسالة من الرئيس السيسي إلى جميع الفصائل السياسية الفلسطينية للعمل معًا على إنهاء الصراعات الداخلية، كخطوة أولى للتفاوض على سلام إسرائيلي فلسطيني. في منتصف يونيو، من المقرر أن تبدأ في القاهرة سلسلة محادثات بين مختلف الفصائل السياسية الفلسطينية، تحت إشراف السلطات المصرية المعنية. وكان زعيم حماس، إسماعيل هنية، هو أول من وصل إلى القاهرة يوم ٨ يونيو للقاء مسؤولي المخابرات المصرية قبل بدء اجتماعات الفصائل الفلسطينية.
منذ أكثر من ١٤ عامًا، تحاول مصر تحقيق المصالحة بين حركة حماس وحركة فتح، أكبر الخصمين السياسيين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. عقدت الجولة الأخيرة من المحادثات بين حماس وفتح وفصائل سياسية أخرى في القاهرة، في شهر فبراير من العام الجاري، استعدادًا للانتخابات الفلسطينية التي ألغيت بعد ذلك بشهرين. فقد كانت آخر انتخابات عامة فلسطينية تم إجراؤها في عام ٢٠٠٦، ومنذ ذلك الحين، أدى تضارب المصالح بين السياسيين الفلسطينيين إلى منع إمكانية إجراء جولة جديدة من الانتخابات. إن الوضع السياسي الراهن الذي يعزل صناعة القرار في غزة عن الضفة الغربية، هو السبب الحقيقي وراء أغلب معاناة الشعب الفلسطيني، لكنه مع الأسف يعمل بشكل مثالي من أجل تحقيق المصالح الأنانية للقادة الفلسطينيين.
أما السؤال عن قدرة مصر على تحقيق تلك المهمة الصعبة، بل شبه المستحيلة، للمصالحة بين فتح وحماس، فسوف يبقى سؤالاً مفتوحاً بدون إجابة حاسمة. هذه عملية أكثر أهمية وأكثر تعقيدا من اقناع الإسرائيليين والفلسطينيين بالجلوس مرة أخرى على طاولة المفاوضات.