لم تتوقف المكالمات الهاتفية من قادة المجتمع الدولي إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، منذ نجاح مصر في التوسط لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، في الأسبوع الأخير من شهر مايو. كانت آخر هذه المكالمات، يوم ٢ يونيو، من رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل. من بين كل الموضوعات المهمة التي ناقشها الرئيسان في هذه المحادثة الهامة والآنية، برز موضوع واحد، ألا وهو رؤية أوروبا لعملية التقارب الحذر بين مصر وتركيا، والتي تجري منذ بضعة أشهر. هذا ليس فقط بسبب أهمية الأمر من الناحية الجيوسياسية بالنسبة لأوروبا والشرق الأوسط، ولكن أيضًا لأنه لم يكن متوقعاً أن تشجع أوروبا مثل هذا التقارب.
بحسب البيان الصادر عن المجلس الأوروبي بشأن المحادثة بين ميشيل والسيسي، رحب الرئيس ميشيل "بالحوار الحالي بين مصر وتركيا" في إطار اهتمام الاتحاد الأوروبي الاستراتيجي ببيئة مستقرة وآمنة في شرق البحر المتوسط. جاءت تصريحات ميشيل المثيرة وغير المتوقعة كجزء من النقاش حول العلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي ومصر، مع التركيز بشكل خاص على استئناف الشراكة والاستثمارات بين الطرفين في إطار "الأجندة الجديدة للبحر المتوسط".
إن "الأجندة الجديدة للبحر المتوسط" هو مشروع طموح عابر للمتوسط، كانت المفوضية الأوروبية قد اقترحته في شهر فبراير، ووافق المجلس الأوروبي عليه في شهر أبريل. الهدف من المشروع هو أن "تعيد أوروبا إطلاق وتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي وشركائها في الجوار الجنوبي"، وذلك من خلال تعديل سياسة الاتحاد الأوروبي نحو منطقة البحر المتوسط، اعتماداً على أداة دبلوماسية جديدة تحمل اسم "أداة الجوار والتنمية والتعاون الدولي"، ستعمل على المستويين الإقليمي والثنائي مع البلدان المستهدفة في جنوب البحر المتوسط، من اجل تنفيذ خطة تعافي اقتصادي وتشجيع الاستثمار في هذه البلدان. تم رصد ميزانية قدرها سبعة مليارات يورو للمشروع الذي سيتم تنفيذه في الفترة بين ٢٠٢١ و ٢٠٢٧.
على الرغم من منطقية رؤيته، إلا أن التصريح الذي رحب فيه رئيس المجلس الأوروبي بالحوار بين تركيا ومصر، من الممكن أن ينظر إليه اليونانيون وداعموهم في فرنسا على أنه خيانة أوروبية. فما زلنا نذكر كيف لامت اليونان، ومن وراءها فرنسا، على موقف الاتحاد الأوروبي تجاه التوترات المتصاعدة بين تركيا واليونان، التي شهدها شرق البحر المتوسط، الصيف الماضي. حيث انتقد الرئيس الفرنسي الاتحاد الأوروبي لعدم اتخاذ موقف قوي لدعم اليونان، بصفتها عضو في الاتحاد الأوروبي، ضد تركيا.
ربما لن تكون مبالغة لو ادعينا أن جهود الاتحاد الأوروبي الدؤوبة، في الأشهر القليلة الماضية، لمقاربة وتعزيز العلاقات مع دول جنوب البحر المتوسط، هي في حقيقتها رد فعل دبلوماسي على النفوذ المتصاعد لتركيا في البلدان الرئيسية في منطقة شمال إفريقيا. فبعد أن تخلى عنها جيرانها الأوروبيون، وبحثاً عن سبيل لتحقيق "الوطن الأزرق"، عملت تركيا منذ سنوات على خلق وجود قوي لها في شمال أفريقيا، وكامل منطقة الشرق الأوسط أيضاً. في تلك الأثناء، كان الاتحاد الأوروبي، متعمداً، ينأى بنفسه عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، وما تلاها من فوضى وحروب أهلية، عززت انتشار التنظيمات الإرهابية، وخلقت أزمة مهاجرين من الجنوب إلى الشمال. ولقد كانت تركيا، أيضاً، هي الدولة الوحيدة التي استطاعت استيعاب الكم الهائل من المهاجرين نحو أوروبا هرباً من الموت في الشرق الأوسط، خلال هذه الفترة العصيبة.
حالياً، لدى تركيا اتفاقيات اقتصادية وعسكرية عديدة مع كل من تونس والجزائر. والأهم من ذلك، هو أن تركيا تحظى بتواجد عسكري داخل ليبيا، بالإضافة إلى اتفاقية بحرية وافقت عليها الحكومة الليبية، سمحت لتركيا بالوصول إلى المناطق البحرية التي كانت محظورة عليها سابقًا بسبب نزاعاتها البحرية المستمرة منذ عقود مع اليونان. في محادثته مع الرئيس المصري، شدد رئيس المجلس الأوروبي على أهمية استقرار ليبيا من أجل ضمان أمن واستقرار منطقة المتوسط، واتفق الرئيسان على أهمية دعم حكومة الوحدة الوطنية، وضرورة انسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.
في الواقع، لم يضيع رئيس الوزراء وكبار المسؤولين في حكومة الوحدة الوطنية الليبية أي فرصة دون الدعوة إلى إخراج المرتزقة من ليبيا، وهو أمر يتفق عليه الجميع بما في ذلك مصر والأمم المتحدة والمجتمع الدولي. لكن في نفس الوقت، فقد وافقت حكومة الوحدة الوطنية، في شهر مارس، على استمرار العمل بالاتفاقات العسكرية والبحرية التي كانت قد وقعتها تركيا مع الحكومة الليبية السابقة. في الوقت الحالي، تمثل القوات العسكرية التركية والمرتزقة الذين ترعاهم تركيا غالبية القوات الأجنبية داخل ليبيا. وعدت تركيا بإعادة المرتزقة إلى سوريا على دفعات. ولا تزال قوات أجنبية أخرى، مثل مجموعة فاغنر الروسية، موجودة على الأراضي الليبية ولم تنسحب حتى الآن، على الرغم من دعوات وإنذارات الأمم المتحدة المتكررة.
في الوقت نفسه، فإن تركيا بصدد إعادة بناء علاقة متوازنة وقوية مع مصر، والتي ستشمل بالتأكيد تعاون اقتصادي وعسكري من شأنه أن يفتح أبواب أفريقيا والشرق والأوسط وجنوب المتوسط أمام تركيا، بما قد يؤثر سلباً على مصالح أوروبا وطموحاتها في هذه المناطق. من هذا المنطلق، قد يرى البعض تصريحات رئيس المجلس الأوروبي الذي رحب فيها بالتقارب بين تركيا ومصر أمر غريب وغير مفهوم. لكن في الحقيقة هو أمر منطقي، لو نظرنا إليه من زاوية برجماتية خالصة. إذ أنه بدون الاتفاق والتعاون بين مصر وتركيا، سيستمر البحر المتوسط في المعاناة من انعدام الأمن وعدم الاستقرار، مما سيعيق أي جهود مستقبلية من جانب أوروبا للاستفادة من مشروعها الضخم لإحياء العلاقات مع جيرانها في جنوب البحر المتوسط.