بعد أحد عشر يوماً من الهجمات الصاروخية المتبادلة، التي أودت بحياة مئات الأبرياء، نجحت الوساطة المصرية في عقد اتفاق لوقف إطلاق النار بين تل أبيب وحماس. لن تساهم التهدئة في إنقاذ أرواح المدنيين وحسب، بل تحمل المبادرة أيضًا بعض الفوائد غير المباشرة على كل من مصر والشرق الأوسط والإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس بايدن.
إن الجولة الأخيرة من العنف بين غزة وتل أبيب هي المعركة الأكثر تدميراً بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ عام ٢٠١٤. وفقًا لآخر إحصائيات صادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية، يوم ٢١ مايو، بلغ عدد القتلى في غزة ما مجموعه ٢٣٢ فلسطينياً، من بينهم ٦٥ طفلاً، فيما أصيب ما لا يقل عن ١٩٠٠ فلسطيني. وقصف الطيران الإسرائيلي بعض المباني السكنية والممتلكات الفردية في غزة، بما في ذلك مبنى مكون من ١٢ طابق، كان يضم مكاتب إعلامية مملوكة لمنظمات إعلامية إقليمية ودولية كبرى. برر الجيش الإسرائيلي تدمير المباني بالقول إنها استخدمت كمخابئ لقادة ومقاتلي حركة حماس.
على الجبهة المقابلة، أعلنت خدمة الاستجابة للطوارئ الإسرائيلية مقتل ١٢ إسرائيليًا، بينهم نساء وأطفال، بصواريخ حماس التي أطلقت على مدن جنوب إسرائيل. وبحسب معطيات رسمية صادرة عن الحكومة الإسرائيلية، أطلقت حماس أكثر من ثلاثة آلاف صاروخ على مدن إسرائيلية، لكن فشل حوالي أربعمائة صاروخ منها وسقطت داخل غزة. وبحسب تصريحات عسكرية إسرائيلية استطاع نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي المعروف باسم "القبة الحديدية" في اعتراض أكثر من ٥٠٪ من الهجمات الصاروخية لحركة حماس. الأسوأ من ذلك هو ما حدث داخل إسرائيل نفسها جراء هذه الحرب، حيث أن العرب الإسرائيليين، الذين يمثلون ٢١٪ من سكان إسرائيل ومعظمهم من الشباب، بدأوا في الاشتباك مع جيرانهم اليهود، الأمر الذي دق ناقوس الخطر بشأن احتمال نشوب حرب أهلية في قلب إسرائيل.
مساء الخميس، أعلنت السلطات المصرية أن جهود الوساطة المصرية بين حماس وتل أبيب أدت بنجاح إلى اتفاق الطرفين المتنازعين على وقف إطلاق النار عند الساعة الثانية من صباح يوم الجمعة ٢١ مايو. تم الاتفاق على وقف إطلاق النار من كلا الجانبين دون أي شروط أو ضمانات من أحدهما تجاه الآخر. وأعلنت مصر في البيان ذاته، أن القاهرة بصدد إرسال وفدين أمنيين أحدهما في تل أبيب والآخر في غزة لمراقبة التزام الأطراف المتصارعة بوقف إطلاق النار، وتعهدت القيادة السياسية المصرية بمواصلة العمل بكد على التوصل لحل سلمي طويل الأمد للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وفي مساء اليوم ذاته، تلقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالاً هاتفيا من الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن لبحث الأوضاع الملتهبة في الجوار. وفقًا للبيان الذي نشره مكتب الرئاسة المصري بشأن المحادثة، أشاد بايدن بجهود مصر في التوسط في وقف إطلاق النار، واتفق الزعيمان على البقاء على اتصال وثيق في المستقبل بشأن القضايا الإقليمية الاستراتيجية. من المهم هنا الإشارة إلى أن إدارة بايدن قد تعرضت لسيل من الانتقادات من المراقبين في جميع أنحاء العالم، نظراً لاستجابتها البطيئة والمتخاذلة تجاه تصاعد الأزمة الأخيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في الأسبوع الأول من اندلاع العنف بين إسرائيل وحماس، تدخلت الولايات المتحدة، ليس فقط مرة واحدة بل ثلاث مرات، لعرقلة قرار لمجلس الأمن بإلزام إسرائيل بوقف إطلاق النار.
إن لمصر تاريخ طويل في إدارة والتوسط في إنهاء حلقات العنف المتتابعة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. تاريخ قديم قدم الصراع نفسه. وفي الجولة الأخيرة، كانت مصر هي الدولة الوحيدة التي اتخذت خطوات حقيقية، تتجاوز الإدانات والاعتراضات الشفهية، نحو إنهاء الحلقة الأخيرة من الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية. منذ بداية الصراع، أجرت مصر اتصالات يومية مع المسؤولين الإسرائيليين وقيادات حماس، وعرضت عليهم خطط للتهدئة. في غضون ذلك، فتحت مصر سيناء أمام المدنيين في غزة الذين يبحثون عن مأوى ومساعدة طبية، على الرغم من المخاطر التي قد ينطوي عليها ذلك على الوضع الأمني في سيناء. كما أعلن الرئيس السيسي، في ١٨ مايو، عقب القمة الثلاثية بين مصر والأردن وفرنسا، تخصيص ٥٠٠ مليون دولار لإعادة إعمار غزة.
قال ابن خلدون ذات مرة: "الجغرافيا قدر". إن الجوار الجغرافي لمصر مع غزة وإسرائيل هو أحد أسباب قوة تأثير التدخل المصري في حل حلقات الاشتباك الإسرائيلي الفلسطيني على مر السنوات. ولكن هذا ليس كل شيء. إن الاستراتيجية الذكية التي يتبناها الرئيس السيسي، على عكس أسلافه، والتي تتمثل في الحفاظ على علاقات متوازنة مع كل الأطراف: إسرائيل والسلطة الفلسطينية وأيضاً حماس، هي السبب الحقيقي وراء النجاح المصري الأخير في التوسط من أجل وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. لكن تبقى حقيقة أن هناك حدود يفرضها الواقع بشأن ما تستطيع مصر أن تفعله بمفردها لإنهاء عقود طويلة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
هذا ليس أول اتفاق تهدئة تتوسط فيه مصر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولن يكون الأخير. يخبرنا التاريخ أن اتفاق وقف إطلاق النار بين تل أبيب وحماس ليس أكثر من مُسكن مؤقت لمرض مزمن، وأن هذا المسكن المؤقت يفقد فعاليته عادةً في غضون بضع سنوات، إن لم يكن في غضون بضعة أشهر. لهذا يجب أن يكون التركيز على تحقيق سلام مستدام، وليس مجرد تهدئة ينصرف بعدها العالم للانشغال بأموره. ومن هذا المنطلق، يجب أن تحصل مصر على تعاون مناسب من قبل القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الشرق الأوسط، ليس فقط لضمان ثبات واستمرارية اتفاق وقف إطلاق النار الحالي، ولكن أيضًا للتوصل إلى اتفاق سلام طويل الأجل بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
مع كل الاحترام، فإن تكثيف الجهود الإقليمية والدولية للتوصل إلى اتفاق سلام عادل وقابل للتحقيق بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو أمر أهم بكثير من جميع اتفاقيات السلام التي وقعتها إسرائيل مع دول عربية، سواء تلك التي تم توقيعها في العامين الماضيين أو تلك التي وُقّعت منذ أكثر من أربعين عاماً.