في مطلع هذا الأسبوع، ناقش الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي سير العمل في مشروع تطوير الريف، ووجه السيسي بـ "تسخير كل الموارد وعدم ادخار أي جهد لإنجاح هذا المشروع". يستهدف المشروع العملاق إجمالي ٤٥٨٤ قرية، بميزانية تقدر بـ ٧٠٠ مليار جنيه مصري، سوف يتم استثمارها في تطوير البنية التحتية لإمدادات المياه والغاز والكهرباء، بالإضافة إلى إنشاء شبكات الصرف الصحي وتحسين خدمات الطرق.
ليس سراً، أننا في مصر نعاني من فجوة كبيرة في مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية بين المدن الحضرية والريفية، وخصوصاً بين العاصمة وغيرها من المحافظات. ويزداد الوضع سوءًا في القرى النائية والنجوع الصغيرة في صعيد مصر، حيث يعاني المواطنون منذ عقود من الفقر والأمية ونقص الخدمات الحكومية الأساسية.
منذ عهد محمد علي باشا (١٨٠٥ – ١٩٥٣)، مؤسس مصر الحديثة، تركزت معظم مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي تقودها الحكومة في العاصمة القاهرة، ومدينة الإسكندرية المطلة على البحر المتوسط. في تلك الحقبة، كانت مصر هي شعاع النور، ومركز للفنون والثقافة، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط، ولكن أيضاً في منطقة البحر المتوسط، حتى أنه كان طبيعياً أن ترى الأوروبيين يفرون من بلادهم التي مزقتها الحروب المتتابعة آنذاك، ويهاجرون إلى مصر ليعيشوا في سلام ويستمتعوا بالحياة المدنية الصاخبة في القاهرة والإسكندرية.
في تناقض صادم مع أسلوب الحياة في القاهرة، آنذاك، كانت الدولة تتجاهل أبسط حقوق المواطنين المصريين الذين يعيشون في المناطق الريفية، بعيداً عن العاصمة، والذين حرموا حتى من الحصول على فرص مناسبة للعمل والتعليم، وكان أقصى آمالهم الخدمة في المزارع المملوكة للإقطاعيين الأثرياء المقربين سياسياً من النظام الملكي. هذه الفجوة الهائلة بين القاهرة والمحافظات الريفية، سواء في منطقة الدلتا شمالاً أو في الصعيد جنوباً، مكنت ظهور منظمات إسلامية متطرفة، مثل جماعة الإخوان المسلمين، والتي بدأت مهمتها بعيداً عن العاصمة في مدينة الإسماعيلية، ثم انتقلت ببطء إلى المدن الريفية الصغيرة في الدلتا، حتى أصبحت قوية بما يكفي لتحدي وتهديد حياة النخبة السياسية الحاكمة في القاهرة.
بعد ثورة الضباط الأحرار، عام ١٩٥٢، والتي أنهت النظام الملكي وأقامت مصر كجمهورية عربية مستقلة، تغير وضع المواطنين الريفيين كثيرًا. حيث قام الرئيس جمال عبد الناصر، الاشتراكي التوجه، بتمكين المواطنين الفقراء، وخاصةً العمال والفلاحين، وقام بأخذ مزارع الإقطاعيين وأعطاها للمزارعين الذين كانوا يخدمون فيها، أيام الحكم الملكي. لكن على الرغم من النشوة التي أحدثتها قرارات عبدا الناصر لصالح الفقراء، في بداية عصره، لم تقم الدولة بتوفير التوعية المناسبة للمواطنين في المناطق الريفية أو فرص التعليم، ولم تبذل ما يكفي من جهد في تطوير البنية التحتية بما يمكن المزارعين من الاستفادة من الثروة التي انتقلت من الاقطاعيين إلى أياديهم. نتيجة لذلك، قام العديد من هؤلاء المزارعين ببيع الأراضي إلى مقاولين البناء الذين قاموا لاحقاً بتجريفها وبناء المساكن فوقها، بينما انتقلوا هم للعيش في القاهرة أو الإسكندرية بحثاً عن مستوى معيشي أفضل، بما توفر لهم من أموال.
على مدار أربعة عقود تالية، في عهدي الرئيسيين محمد أنور السادات وحسني مبارك، ازداد سوء حالة المدن الريفية، بسبب تجاهل الحكومة لها، بينما ركزت معظم مشاريع البنية التحتية والتنمية التي نفذتها الحكومة على القاهرة والإسكندرية والمدن السياحية في جنوب سيناء. في غضون ذلك، واصل معظم المزارعين عمليات بيع أراضيهم وتجريفها، وسعى قطاع عريض من الشباب الريفي إلى الهجرة بشكل غير شرعي إلى أوروبا، عبر البحر المتوسط على متن ما عرف حينها بـ "مراكب الموت". وقد خلق هذا فجوة كبيرة وخطيرة نفذ من خلالها الإسلاميون المتطرفون إلى القرى الريفية، لا سيما الصغيرة والبعيدة عن العاصمة، وقاموا بتشويش عقول وعقيدة المواطنين هناك، واستغلوها كمصدر لتجنيد مئات الشباب الذين يعانون من الفقر والبطالة ومحدودية فرص التعليم وفرص الحياة الكريمة.
في حقبة التسعينيات، أنشأت التنظيمات الإسلامية المتطرفة إمبراطوريتها الخاصة على الأراضي المصرية في هذه القرى الفقيرة في صعيد مصر، وربما كان أشهرها تنظيم الجماعة الإسلامية. وفي السنوات الأخيرة من عهد مبارك، تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من تحقيق انتصار سياسي في البرلمان، التي فازت بثلثي مقاعده، اعتماداً على اتباعها من الإسلاميين المتطرفين في هذه القرى، والذين لعبوا على المشاعر الدينية للمواطنين، ولعبوا أيضاً على حاجات الفقراء منهم، من خلال تقديم الجماعة للخدمات الصحية والموارد الغذائية الأساسية التي فشلت الحكومة في أن تقدمها لهم آنذاك.
في ضوء هذا التاريخ، فإن مشروع الرئيس السيسي لتطوير البنية التحتية في الريف وضمان حياة أكثر كرامة للمواطنين في القرى والنجوع الفقيرة، يستمد أهميته من ما سيترتب عليه من رفاهية اقتصادية للمواطنين سوف تساهم بشكل أساسي في تقوية البنية السياسية للدولة. كما أن نجاح هذا المشروع سوف يعيد التوازن إلى التوزيع الديموغرافي بين المدن الحضرية والريفية، حيث سيرغب عدد أقل من المواطنين في مغادرة مدنهم الريفية والهجرة داخليًا إلى القاهرة أو الهجرة خارجياً إلى أوروبا بحثًا عن ظروف حياة وفرص عمل أفضل.
لكن فوق كل هذا، فإن أهم نتيجة قد تترتب على هذا المشروع الوطني العملاق، هو محاربة التطرف الديني والتنظيمات الإرهابية، الذين وجدوا أرض خصبة لأفكارهم المتطرفة وعقيدتهم المختلة، وسط الاحتياجات التي لم يتم تلبيتها وحالة اليأس التي عمت بين الشباب الذين يعيشون في القرى الفقيرة. وهذا يعني مستقبلًا أكثر أمانًا لمصر، إن لم يكن لمنطقة الشرق الأوسط ومنطقة البحر المتوسط أيضاً.