Tuesday, March 29, 2022

استثمار الأزمة الاقتصادية المصرية المزمنة


إن الأزمات الاقتصادية ليست بالأمر الجديد على مصر، بل يمكن للبعض أن يجزم بضمير مرتاح أن مصر تعيش في أزمة اقتصادية مزمنة وممتدة منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى الإدارات السياسية التي نجحت في حلها بشكل جزئي، ومنها القيادة السياسية الحالية، سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة طوفان من الأزمات العالمية التي عطلت تقدمها.

من المفارقات أن أكبر ميزة تتمتع بها مصر، وهو موقعها الجغرافي الاستراتيجي المميز بين الثلاث قارات التي تشكل قلب العالم، هي نفسها السبب الحقيقي وراء تلك الأزمة الاقتصادية المصرية المزمنة، الممتدة منذ أكثر من سبعة عقود. بسبب هذا الموقع الجغرافي-السياسي الفريد وجدت مصر نفسها متورطة في حروب مباشرة مع القوى العالمية العظمى في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إما دفاعاً عن نفسها أو دفاعاً عن جيرانها في الدول العربية التي رأت في عبد الناصر نموذجاً ملهماً وقررت اتباع حلمه العربي الذي لم يتحقق حتى اليوم، وربما لن يتحقق أبداً. 

ثم بعد ذلك مرت مصر بحالة التحول السياسي والمجتمعي الحاد في عهد السادات، وكان لهذا التحول أثر واضح في فشل مشروعه في تحرير الاقتصاد واعتماد نظرية السوق الحر، التي كانت رائجة بشكل كبير في أوروبا وأمريكا آنذاك، عوضاً عن النظام الاشتراكي الناصري الذي ثبت فشله هو الأخر، ومع اغتيال السادات تم أيضاً اغتيال أحلامه في عمل اصلاح اقتصادي شامل، إذ لم تتخذ إدارة مبارك أي خطوة حقيقية في هذا الاتجاه، ومع امتداد فترة حكم مبارك لعشرات السنوات، كان بديهياً أن تغرق البلاد في حالة من الفساد المالي والإداري التي أدت في النهاية إلى فشل الحكومة وقيام ثورة شعبية ضدها وضد مبارك، أعقبها فوضى سياسة وأمنية ما زلنا نعالج أثارها حتى اليوم، بعد أكثر من عشر سنوات على اندلاعها. 

رغم ذلك، جاء برنامج الإصلاح الاقتصادي (٢٠١٦-٢٠٢٠) الذي قادته الإدارة السياسية الحالية للرئيس عبد الفتاح السياسي، بدعم من صندوق النقد الدولي، بمثابة طوق النجاة الذي وضع مصر على أول طريق الأمل نحو تعافي الاقتصاد المصري من حالة الأزمة المزمنة التي صاحبته لسبعين عاماً. حيث توقع تقرير لصندوق النقد الدولي، في ديسمبر ٢٠٢١، أن تصبح مصر في عام ٢٠٢٢ ثاني أكبر اقتصاد في إفريقيا بعد نيجيريا، وثاني أكبر اقتصاد في الدول العربية بعد المملكة العربية السعودية، مع تحقيق معدل قياسي في الناتج المحلي الإجمالي يزيد على ٤٣٨ مليار دولار. وفي منتصف فبراير، احتفلت وزيرة التخطيط المصرية، في مؤتمر صحفي، بنجاح مصر في تحقيق معدل نمو بلغ ٨,٣٪ خلال الربع الثاني من العام المالي الحالي ٢٠٢١/٢٠٢٢، مقارنة بمعدل نمو ٢٪ فقط خلال الربع الثاني من العام الماضي. 

لكن مع الأسف، على الرغم من تركيز القيادة المصرية الحالية على إصلاح وإدارة شئون الداخل أكثر من انشغالها بالخارج، إلا أن هذا الجهد الكبير في إصلاح الاقتصاد، ونجاحها الفعلي في تحقيقه بشهادة عالمية، سرعان ما واجهته تحديات جسيمة، وإن كانت غير مباشرة، بدءاً من انتشار وباء كوفيد ثم الحرب الروسية الأوكرانية، والتي ابتلعت سريعاً أغلب ثمار الإنجازات التي تم تحقيقها بشق الأنفس، وأعادت البلاد إلى حالة الأزمة من جديد.

نتيجة لتغير السياسات النقدية في الدول الكبرى لاحتواء الأزمة الاقتصادية العالمية، قفز معدل التضخم في مصر هذا الأسبوع إلى ما فوق ١٠٪، وتجاوز سعر صرف الدولار مقابل الجنيه حاجز الـ ١٨,٥٠ جنيه، مع توقعات لتخطيه العشرين جنيه في الأيام القادمة، وقد أجبر ذلك البنك المركزي المصري على اتخاذ قرار سريع برفع أسعار الفائدة بمقدار مائة نقطة (واحد بالمائة)، وبالطبع فإن حالة الإحباط الناتجة عن التراجع في القدرة الشرائية للجنيه وحالة عدم اليقين الناشئة عن عدم وجود موعد واضح تنتهي فيه الأزمة العالمية الحالية نتيجة الحرب في شرق أوروبا، قد يضاعف الشعور بتبعات هذه الأزمة لدى عامة الجماهير. 


لكن كما يقولون هناك فرص خفية في داخل كل أزمة، وربما تكون مرحلة الإصلاح الاقتصادي التي مرت بها مصر في السنوات القليلة الماضية قد كونت شيء من الخبرة لدى الحكومة ولدى المواطن في كيفية إدارة أموالهم بحيث تحقق أكبر مكاسب ممكنة، وهو ما نراه الآن بوضوح في السياسات النقدية التي يتخذها البنك المركزي لتقوية وضع العملة المصرية والحفاظ على مرونتها من خلال قرار التعويم ورفع سعر الفائدة، رغم قسوته على المدى القصير، وكذلك من خلال الإجراءات التي اعتمدتها الحكومة لمواجهة جشع التجار وتقليل الشعور بانخفاض القيمة الشرائية للجنيه على المواطن. 


بالإضافة إلى ذلك، لا تزال ودائع دوال الخليج العربي في البنك المركزي المصري كبيرة بما يكفي للحفاظ على احتياطي النقد الأجنبي وبالتالي تحقيق استقرار نسبي للاقتصاد المصري والعملة المصرية في مواجهة الضغوط العالمية. في نوفمبر ٢٠٢١، أظهر تقرير الوضع الخارجي الدوري للبنك المركزي انخفاضًا قدره ٢.٢ مليار دولار في حجم الودائع طويلة الأجل لدول الخليج العربي، والتي بلغت ١٥ مليار دولار في يونيو ٢٠٢١. في الوقت الحالي، تحتفظ المملكة العربية السعودية بوديعة قيمتها ٢,٢ مليار دولار في البنك المركزي حتى نهاية ٢٠٢٦، وتحتفظ دولة الإمارات بوديعة قيمتها ٥.٧ مليار دولار، وتحتفظ الكويت في البنك المركزي المصري بوديعة قيمتها ٤ مليار دولار. 


وحديثاً قررت الإمارات التدخل في الاقتصاد المصري، في خضم الأزمة العالمية الحالية، باستثمارات جديدة تصل إلى ٢ مليار دولار من أجل الاستحواذ على أسهم في أكبر الشركات المصرية، سواء في القطاع الخاص أو العام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، بحسب تقرير لوكالة بلومبرج أكدته البورصة المصرية فيما بعد، ذكر أن صندوق أبوظبي السيادي قد استحوذ على حصص مملوكة للدولة المصرية في شركات: أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية، مصر لإنتاج الأسمدة (موبكو)، الإسكندرية القابضة لتداول الحاويات والبضائع، بالإضافة إلى أسهم في الشركات الخاصة: البنك التجاري الدولي، شركة فوري، وأربع شركات خاصة أخرى. 

وعلى الرغم من أن الخطوة الإماراتية قد أثارت الكثير من الجدل في الشارع المصري، بين مؤيد ومعارض ومتوجس من فكرة بيع أسهم مملوكة للدولة المصرية إلى دولة أخرى، إلا أن كثيرون لا يعلمون أن الإمارات بالفعل هي أكبر مستثمر أجنبي في مصر على مستوى العالم، منذ أكثر من خمس سنوات، بقيمة استثمارات مباشرة تزيد على ١٥ مليار دولار، وأن هناك أكثر من ألف شركة إماراتية تعمل في مصر في مجالات حيوية جداً مثل الصناعات الغذائية، التكنولوجيا، والطاقة (النفط والغاز)، وبعض الخدمات اللوجستية في قناة السويس التي تستثمر الإمارات فيها بشكل كبير منذ عام ٢٠١٧. كما أن هناك تعاون استراتيجي قائم بالفعل بين صندوق مصر السيادي وصندوق أبو ظبي السيادي، منذ عام ٢٠١٩، على توجيه استثمارات مشتركة بقيمة عشرين مليار دولار إلى بعض القطاعات والأصول بهدف تنمية الاقتصاد المصري. 

ويبقى السؤال هل تكفي أموال الإمارات، أو أموال دول الخليج بشكل عام، أو حتى بدء برنامج اقتراض جديد مع صندوق النقد الدولي، هل كل هذا كاف لإخراج مصر من أزمتها الاقتصادية الحالية؟ بالتأكيد لا. ما زال الأمر معقد للغاية، نظراً لأبعاد داخلية وخارجية متعددة، وما زالت مصر بحاجة إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي الكامل للتعافي من أزمتها. لكن ربما لن نكون منصفين لو توقعنا أن يحدث ذلك في ظل الظروف العالمية الحالية، أو حتى لو توقعنا أن القيادة السياسة قد تتمكن في سنوات قليلة من إصلاح أمراض اقتصادية مزمنة عمرها سبعين سنة.