يحتاج شخص ما إلى إعادة بوتين إلى رشده من خلال فتح عينيه على حقيقة أن العالم ثنائي القطب حيث تقود بلاده كتلة شرقية ضد كتلة غربية ليس في الواقع سوى وهم من الماضي، ولن يتحقق بالاعتداء على دول مستقلة ذات سيادة وانتهاك أرضها وقتل شعبها بهذا الشكل المروع الذي نراه في أوكرانيا الآن.
حتى اليوم، تم إهدار عشرات الآلاف من الأرواح البريئة، بما فيهم أطفال لا حول لهم ولا قوة، وتشرد الملايين من المواطنين الأوكرانيين كلاجئين في أرض الله الواسعة، وتعرضت البنية التحتية للمدن الرئيسية في أوكرانيا الجميلة لتدمير شامل سيستغرق سنوات من أجل إعادة بناءه، وعلى نطاق أوسع، فإن العالم على وشك أن يغرق في أزمة اقتصادية جديدة ربما لن يتعافى منها بسهولة، وبينما ما زال القتال مستمراً في ميادين أوكرانيا، فشلت المحادثات بين الأطراف المتحاربة، وجهود الوساطة اليائسة من أجل وقف إطلاق النار من قبل القوى الإقليمية، بشكل كبير في وقف أو على الأقل إبطاء الصراع.
ومع ذلك، لا أحد يستطيع حتى الآن فهم ما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحديداً من هذه الحرب. بمعنى آخر، ما الذي يريد بوتين تحقيقه استراتيجيًا من خلال ارتكاب جريمة عظيمة، على الأقل في تعريف القانون الدولي، مثل غزو دولة ذات سيادة وقتل وتشريد شعبها بهذا الشكل؟ إن معرفة الإجابة على هذا السؤال المهم هو الخطوة الأولى لوقف عدوان بوتين ودفع جهود الوساطة لوقف إطلاق النار إلى خارج عنق الزجاجة التي علقت فيها.
ربما تحمل الدعاية المغرضة التي يروجها أنصار بوتين في الدول العربية الإجابة على هذا السؤال المحوري. إذ أن أحد الادعاءات المنتشرة على نطاق واسع بواسطة المؤيدين لروسيا في الدول العربية لتبرير حرب بوتين غير المبررة على أوكرانيا هي أن "الوقت قد حان لعودة النظام العالمي الثنائي القطبية والذي يقوم على المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة". هم يدّعون أنه بغزو أوكرانيا واحتلالها، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينقذ العرب من "استبداد الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة التي تسيطر على العالم".
وبقدر ما تبدو هذه المزاعم سخيفة لأذن الخبير، إلا أنها تزداد انتشاراً بين العوام في الدول العربية بشكل مثير، خاصة في بلدان مثل مصر، حيث لا يزال بعض الصحفيين الكبار يكتبون ويتحدثون بحنين شديد عن حقبة الاشتراكية البائدة في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر، الذي تولى مهمة الترويج للإيديولوجية الشيوعية التي يتبناها الاتحاد السوفيتي في المنطقة العربية آنذاك، بقدر ما يتجاهلون الحديث عن البؤس الذي يعانيه العرب بسبب التدخلات الروسية في شؤونهم الداخلية، في السنوات الأخيرة، ولعل سوريا وليبيا مثالان حيان على ذلك.
إن الادعاء بأننا نعيش في عالم أحادي القطبية حيث يدور الكون في فُلك الولايات المتحدة هو أمر غير صحيح على الإطلاق، كما أن خطاب بوتين المفضل حول الصراع بين الكتلة الغربية مقابل الكتلة الشرقية هو كلام قد عفا عليه الزمن، قد سقط منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، قبل عقود عديدة.
في الواقع، نحن لا نعيش حتى في عالم ثنائي القطبية ناتج عن صراع ما بين الولايات المتحدة والصين. نحن نعيش في عالم متعدد الأقطاب حيث تتعايش عدة قوى عظمى، أغلبها قوى جيوسياسية، وليست دول منفردة، مع بعضها البعض بطريقة تتراوح بين التنافس والتكامل. قد تتضمن ديناميكية العلاقة بين هذه القوى العظمى شكلاً من أشكال المنافسة الإيجابية التي تشجعهم على الأداء بشكل أفضل في مجالات تميزهم، ولكنها لا تدفع أي منهم إلى الحرب.
بينما تتفوق الولايات المتحدة كقوة عسكرية عظمى، تتفوق الصين كقوة تقنية عظمى، ومنطقة الخليج العربي هي القوة العظمى لموارد الطاقة، وأوروبا والبحر المتوسط قوة عظمى جيو-اقتصادية، وهكذا. في هذا العالم متعدد الأقطاب، حيث وجدت العديد من القوى العظمى طريقتها المثالية للتعايش، فإن روسيا الحديثة قد أصبحت هشة للغاية، من الناحيتين السياسية والاقتصادية، بحيث لا تستطيع حتى المنافسة معهم، ولعل أداء روسيا في حربها الحالية على أوكرانيا دليل حي على ذلك الضعف.
فعلياً، فإن روسيا قد خسرت الحرب على أوكرانيا منذ الأسبوع الأول، واستمرار الصراع الآن ما هو إلا وسيلة لإرضاء غرور بوتين والحفاظ على صورته، ورفضه الاعتراف بأنه هزم في حرب ما كان يجب أن يخوضها أصلاً. لقد كان بوتين يتوقع أن يستقبل الشعب الأوكراني قواته بالورود والأذرع المفتوحة، وأن القوى الغربية المستضعفة بفعل الوباء والتدهور الاقتصادي ستدير وجهها بعيداً، بينما يقتل هو السياسيين الأوكرانيين ويمثل بجثثهم. لكن، للأسبوع الثالث على التوالي، يواصل الشعب الأوكراني الشجاع مقاومته للعدوان ببسالة، بينما تسقط روسيا في حفرة غطرسة بوتين العميقة.
في النهاية، قل ما شئت عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، شوه الحقائق لصالح أوهام بوتين كما تحب، لكن لا تنكر أن صمود الشعب الأوكراني واستماتته في الدفاع عن وطنه في مواجهة القوة الغاشمة للمعتدي، للأسبوع الثالث على التوالي، في حرب طاحنة تم توظيف كافة أشكال القتال التقليدي والحضري والسيبراني فيها، هو في حد ذاته أمر عظيم يستحق الإعجاب والتقدير.