منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، في شهر فبراير، يعاني الاقتصاد المصري من ضغوط كبيرة. التراجع الحاد في نسبة إقبال السياح من شرق أوروبا على منتجعات البحر الأحمر، وتعطل سلسلة الإمداد الغذائي، خاصة فيما يتعلق باستيراد القمح، وأزمة الطاقة التي تصاعدت عالمياً نتيجة العقوبات الاقتصادية التي أدت إلى تضاعف أسعار النفط والغاز الطبيعي، والارتفاع الحاد في أسعار صرف الجنيه مقابل الدولار لمواكبة السياسات الدولية لاحتواء معدلات التضخم غير المسبوقة، هي بعض من ملامح تلك الضغوط الاقتصادية التي تحاول الحكومة المصرية الآن، بكل ما أوتيت من قوة، أن تخفف أثرها على المواطنين، الذين يتجاوز عددهم المائة مليون إنسان.
إن مصر ليست الدولة الوحيدة في العالم التي تعاني من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة أن الحرب اندلعت بعد عامين طاحنين من انتشار جائحة كوفيد تركت جميع الدول في حالة إنهاك سياسي واقتصادي واضحة. تعاني جميع البلدان في العالم من أثار الحرب، وإن كان بدرجات متفاوتة؛ بدءاً من الولايات المتحدة والدول الأوروبية المصممة على رفع تكلفة الحرب على روسيا من خلال العقوبات وسط أزمتها المزمنة مع نقص موارد الطاقة، وصولاً إلى الدول الأفريقية الفقيرة التي حذرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من دخولها في مجاعة طويلة الأمد.
إلا أن الادعاءات التي يسوقها البعض في وسائل الإعلام الغربية بأن الأزمة الاقتصادية الحالية قد تعيد انتاج ثورات الربيع العربي أو على الأقل تؤدي إلى اندلاع الاحتجاجات هي ادعاءات مضللة وغير واقعية. إذا كنت تفهم مجريات السياسة الحديثة في مصر، وتفهم المصريين بشكل جيد، سوف تدرك أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر الآن ربما تزيد من رضا المواطنين تجاه القيادة السياسية الحالية بدلاً من أن تجعلهم يغضبون عليها.
يبدو أن الارتفاع الحاد في أسعار القمح وتأثيره على أسعار الخبز هو السبب وراء مثل هذه الفرضيات المضللة عن قيام المصريين بأعمال شغب للاحتجاج على الأزمة الاقتصادية، نظراً لأن كثير من المتابعين يربط بين الأزمة الحالية وأزمة رغيف العيش التي حدثت في عام ٢٠٠٨ بسبب عجز إمدادات القمح وعدم قدرة المخابز على انتاج العيش، مما تسبب في خروج الناس في مظاهرات حاشدة أزعجت السلطة كثيراً آنذاك وكانت لها أصداء دولية واسعة، وأضطر بسببها مبارك للجوء إلى القوات المسلحة لتتدخل لسد الفجوة في الاقتصاد المدني وحل الأزمة.
لقد ظلت مصر، على مدار السنوات القليلة الماضية، من بين أكبر ثلاثة مستوردين للقمح على مستوى العالم، حيث يستهلك المصريون ما يعادل أربعة ملايين طن من القمح سنويًا. في عام ٢٠٢١، أنتجت مصر ٢٠٪ فقط من احتياجاتها من القمح واضطرت إلى استيراد الـ ٨٠٪ المتبقية من روسيا (٥٠٪) وأوكرانيا (٣٠٪). وقد تسببت الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا بالفعل في ارتفاع أسعار القمح إلى مستويات غير مسبوقة، ستحمل ميزانية الدولة بما لا يقل عن ١٥ مليون دولار إضافية في خلال العام المالي الحالي لتلبية احتياجات المواطنين من الخبز وغيرها من المنتجات الغذائية الأساسية.
ومن المتوقع أيضًا أن يتأثر قطاع السياحة المصري، الذي يتعافى بالكاد من عواقب جائحة كوفيد، تأثر شديد بسبب الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا. نسبة كبيرة من السياح الذين يتدفقون إلى مصر، كل عام، يأتون من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا خلال فصل الشتاء. عندما تم تعليق الرحلات الجوية بين روسيا ومصر في الفترة بين ٢٠١٥ و٢٠٢١، عانت منتجعات البحر الأحمر للاستمرار في العمل، كما عانى الاقتصاد المصري بشكل كبير، حيث تمثل السياحة نسبة ٩٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، وتتأثر بها قطاعات اقتصادية أخرى. بالنظر إلى حقيقة أنه من المتوقع أن تستمر الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا لفترة طويلة، فإن قطاع السياحة المصري محكوم عليه أن يمر بفترة ركود مماثلة، والتي سيتردد صداها لاحقاً في قطاعات أخرى.
وعلى مستوى آخر، نتيجة لتغير السياسات النقدية في الدول الكبرى لاحتواء الأزمة الاقتصادية العالمية، قفز معدل التضخم في مصر هذا الأسبوع إلى ما فوق ١٠٪، وتجاوز سعر صرف الدولار مقابل الجنيه حاجز الـ ١٨ جنيه، مع توقعات لتخطيه العشرين جنيه في الأيام القادمة، وقد أجبر ذلك البنك المركزي المصري على اتخاذ قرار سريع برفع أسعار الفائدة بمقدار مائة نقطة (واحد بالمائة). لا شك أن هذا التراجع في قيمة الجنيه المصري وحالة عدم اليقين الناشئة عن عدم وجود موعد واضح تنتهي فيه هذه الأزمة العالمية، قد تسبب في إحباط كبير لدى عموم المصريين، بعد حالة من التفاؤل سادت المشهد في الأشهر الماضية بشأن تحسن أداء الاقتصاد المصري.
حيث توقع تقرير لصندوق النقد الدولي، في ديسمبر ٢٠٢١، أن تصبح مصر في عام ٢٠٢٢ ثاني أكبر اقتصاد في إفريقيا بعد نيجيريا، وثاني أكبر اقتصاد في الدول العربية بعد المملكة العربية السعودية، مع تحقيق معدل قياسي في الناتج المحلي الإجمالي يزيد على ٤٣٨ مليار دولار. وفي منتصف فبراير، قبل أسبوع واحد فقط من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، احتفلت وزيرة التخطيط المصرية، في مؤتمر صحفي، بنجاح مصر في تحقيق معدل نمو بلغ ٨,٣٪ خلال الربع الثاني من العام المالي الحالي ٢٠٢١/٢٠٢٢، مقارنة بمعدل نمو ٢٪ فقط خلال الربع الثاني من العام الماضي. لكن مع الأسف، فإن الأزمة الاقتصادية الحالية، وارتفاع نسب التضخم، وعدم استقرار أسعار صرف العملة، سوف يبتلع هذا التقدم الذي تم تحقيقه بشق الأنفس.
لكن في ظل هذا المشهد القاتم، ربما يجد الشعب المصري عزاءً في حقيقة أن الدولة والحكومة لم توفر جهداً في تقليل أثر الأزمة الاقتصادية الحالية، والتي ليس لهم أي ذنب في صنعها، على المواطن العادي. كما أن الدروس المستفادة من الأزمة الاقتصادية التي حدثت في بداية عملية الإصلاح الاقتصادي عام ٢٠١٦، سوف تساهم بشكل كبير في إدارة الأزمة الحالية.