تعد مصر واحدة من أكثر الدول تأثراً بالحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، على الرغم من كون الحرب تجري في جغرافيا بعيدة نسبياً عن محيطها الجغرافي المباشر، حيث أن هناك العديد من المخاطر الاقتصادية التي بدأت تبرز في ظل الأزمة العالمية الحالية، والتي من المتوقع أن يكون لها تبعات سياسية غير محمودة، لو أن مصر لم تتعامل معها وتتجاوزها بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب، لا سيما بالنظر إلى حقيقة أنه من غير المتوقع أن تنتهي هذه الحرب في أي وقت قريب، حتى لو تخللها فترات من الهدوء الظاهري. لكن على الجانب المشرق، هناك العديد من الفرص التي يحملها الصراع الدبلوماسي والاقتصادي الذي يتسع حالياً بين روسيا وقوى الغرب، وهذه الفرص هي التي يجب أن تركز مصر على حصادها بأفضل شكل ممكن في الفترة القادمة، لتوازن أثر المخاطر المحتملة. إلا أنه من المؤكد أنها لن تكون مهمة سهلة على مصر، إذا استمرت في اتباع النهج الدبلوماسي التقليدي الذي يعتمد على الحفاظ على توازن علاقاتها بين القوى العالمية المهيمنة غرباً وشرقاً، فالمرحلة القادمة هي مرحلة استقطاب عالمي حاد، ولن ينجح فيها من يقف في المنتصف.
عندما أطلق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ما أسماه بـ "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، يوم ٢٤ فبراير، ربما لم يكن يتوقع أن المهمة ستتجاوز بضع ساعات تستطيع خلالها قواته السيطرة على نقاط استراتيجية في أوكرانيا، بما في ذلك العاصمة، ثم يعودوا في نهاية اليوم ليحتفلوا معه. لكن على غير المتوقع، امتدت العملية لأيام، وما زالت لم تحسم بعد، بفضل المقاومة الباسلة للشعب الأوكراني، والذي أجبر القوى العالمية غرباً، وأيضاً شرقاً (من اليابان) على الاصطفاف معهم، بعد أن كانوا يشيحون بوجههم بعيداً في بداية المعركة. بمعنى آخر، فإن الحرب التي بدأت بوقوف أوكرانيا وحيدة في مواجهة روسيا العملاقة، سرعان ما تحولت إلى مشهد تقف فيه روسيا عالقة بمفردها في مواجهة المجتمع الدولي.
في مصر، بينما الدولة حريصة للغاية على البقاء على الحياد وعدم الانحياز إلى جانب أي من الأطراف المتصارعة، يتابع الجمهور المصري التطورات في أوكرانيا بمشاعر تتراوح بين الشماتة والخوف. لسبب ما، هم ينظرون إلى الموضوع وكأن روسيا تنتقم من أجل العرب الذين عانوا على أيدي الغرب، فهم يشبّهون الغزو الروسي لأوكرانيا بما حدث عندما تدخل الناتو في ليبيا أو بحرب الولايات المتحدة في العراق. مع الأسف، فإن هذا التصور الملتوي للمشهد الأوكراني منتشر على نطاق واسع، ليس فقط على منصات التواصل الاجتماعي، ولكن أيضًا في البرامج التلفزيونية الشهيرة.
منذ بداية الحرب، رصدت بنفسي زيادة ملحوظة في عدد اللجان الإليكترونية، التي تنشر باللغة العربية، على فيسبوك وتويتر يقومون بتشجيع المصريين، والجمهور العربي بشكل عام، على التصفيق لروسيا "لانتقامها من الغرب ". وذهبت بعض المنشورات إلى حد نشر صور للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وهو يرتدي طاقية يهودية، وحرضوا من خلالها العرب على عدم التعاطف مع أوكرانيا لأن رئيسهم يهودي. مع الأسف، هذا الخطاب العنصري ضد اليهود يلقى هوى لدى فصائل عربية عديدة.
على المستوى الرسمي، يبدو أن الدولة المصرية تنظر إلى القضية من منظور مختلف إلى حد كبير. مصر، مثلها مثل غالبية الدول العربية، لا تريد أن تنحاز إلى طرف ضد الآخر في هذه الحرب. تاريخيًا، فضلت مصر دائمًا المعسكر الغربي. مصر حليف استراتيجي منذ عقود للولايات المتحدة ولديها علاقات اقتصادية وأمنية متنامية مع دول أوروبية محورية مثل فرنسا وألمانيا. لكن في الوقت نفسه، تعتمد مصر على روسيا والصين وكوريا الشمالية في شراء الأسلحة وبينها وبينهم أشكال مختلفة من التعاون الاقتصادي. في العام الماضي، دفعت السياسة المعيبة للرئيس الأمريكي بايدن في الشرق الأوسط مصر، وكذلك غالبية دول الخليج العربي، إلى الميل أكثر نحو المحور الروسي / الصيني، إذ أنه في المعسكر الشرقي، يسهل كثيراً شراء الأسلحة وإبرام الصفقات التجارية، دون الحاجة إلى القلق بشأن الضغوط الدبلوماسية التي عادةً ما تضعها على كاهلهم الولايات المتحدة بشأن تحسين سجل حقوق الإنسان أو التطور الديمقراطي.
لكن هذا لا يعني أن الدولة المصرية سعيدة الآن بغزو أوكرانيا، أو أنها بالضرورة تؤيد روسيا في هذا الاعتداء. لطالما كانت أوكرانيا دولة مهمة صديقة بالنسبة لمصر، ودولة مهمة جداً لأسباب اقتصادية، حيث أن مصر هي واحدة من أكبر خمسة مستوردين للقمح في العالم. تستورد مصر احتياجاتها من القمح سنوياً بنسبة ٥٠٪ من روسيا و٣٠٪ من أوكرانيا. وبالتالي، ليس هناك شك في أن الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا سيكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد المصري، ليس فقط بسبب ارتفاع أسعار القمح إلى مستويات غير مسبوقة، منذ بداية الحرب، والذي سينعكس عاجلاً أو أجلاً كعبء كبير على الاقتصاد المصري، وقد يؤثر أيضًا على أسعار المنتجات الغذائية الأساسية الأخرى، ولكن حتى بعد انتهاء الحرب، فإن العقوبات التي فرضتها القوى الغربية على الاقتصاد الروسي سوف تستمر في التأثير على أسعار القمح. وبالنسبة لمصر، فإن العثور على موارد بديلة بأسعار معقولة ليس حتى خيارًا متاحاً في الوقت الراهن.
بالتوازي مع ذلك، من المتوقع أن يتأثر قطاع السياحة، الذي بالكاد يتعافى من عواقب جائحة كورونا، بسبب هذه الحرب، نظراً لاعتماد قطاع السياحة في مصر بشكل كبير على السائحين القادمين من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، في خلال فصل الشتاء. عندما تم تعليق الرحلات الجوية بين روسيا ومصر بين عامي ٢٠١٥ و٢٠٢١، كانت منتجعات وفنادق البحر الأحمر تعاني للحفاظ على استمراريتها. بالنظر إلى حقيقة أنه من المتوقع أن تستمر الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا لفترة طويلة، كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون، فإن قطاع السياحة المصري محكوم عليه أن يمر بنفس التباطؤ والتعقيدات مرة أخرى، والتي حتماً سيكون لها أصداء سلبية في قطاعات اقتصادية أخرى.
على الرغم من كل ذلك، من المتوقع أن يعوض نجاح مصر في قطاع الطاقة هذه الخسائر، بل سوف تخلق الأزمة العالمية الحالية فرصاً جديداً لصعود مصر بقوة في هذا القطاع في السنوات القادمة، مستفيدة من بحث أوروبا الآن عن مصادر بديلة للغاز الروسي التي تعتمد عليه أغلب دول الغرب، ويضع أصبعه تحت أسنان بوتين. منذ عام ٢٠١٨، تعمل مصر بكد على تعزيز سمعتها كمحور إقليمي لتصدير الغاز في منطقة البحر المتوسط. منذ الربع الأخير من عام ٢٠٢١، بدأت مصر في تصدير شحنات منتظمة من الغاز الطبيعي المسال إلى تركيا وجنوب أوروبا. في يناير ٢٠٢٢، لأول مرة على الإطلاق، بدأت مصر في شحن الغاز الطبيعي المسال إلى دول بعيدة مثل هولندا، في شمال غرب أوروبا.
على الرغم من أن مصر ليست واحدة من عمالقة إنتاج الغاز الطبيعي، مثل قطر أو إيران أو روسيا مثلاً، إلا أنها تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي قريب للغاية من أوروبا، يمنحها ميزة تنافسية لوجيستية، سيجعلها الخيار الأفضل بالنسبة لأوروبا لاستيراد الغاز. لكن لكي تتمكن مصر من تحقيق اقصى استفادة من هذه الفرصة السائغة، فإنها تحتاج إلى توسيع نطاق تعاونها مع الدول المجاورة لها التي تقوم بإنتاج الغاز بكميات كبيرة، مثل ليبيا والجزائر وإسرائيل على سبيل المثال، هذا أهم ألف مرة من تعاونها في هذا النطاق مع دول شمال البحر المتوسط مثل قبرص واليونان، خصوصاً في ظل ما يتردد عن فشل مشروع خطوط الغاز في شرق المتوسط.
إن الهجوم العسكري غير المبرر الذي شنته روسيا على جارتها أوكرانيا، قبل أيام، ما هو إلا بداية لحالة اضطراب دولي من شأنه أن يغير وجه العالم إلى الأبد. ستستغرق عملية التحول سنوات لتستقر في النهاية على شكل واضح المعالم للطريقة التي سيدار بها العالم في المستقبل. سوف تسقط بعض القوى العالمية بينما تصعد أخرى لتملي شروط النظام العالمي الجديد. في خضم هذه العملية، ستواجه جميع دول العالم - بدون استثناء – العديد من التحديات السياسية والاقتصادية، وإن كان بدرجات متفاوتة. في حين أنه من المتوقع أن تعاني غالبية الدول، فمن المتوقع أن يستمر البعض في النمو عبر الأزمة الحالية والأزمات المستقبلية المترتبة عليها. لنكن متفائلين بأن مصر ستكون واحدة من العدد القليل من الدول التي ستمر عبر هذه الأزمات بسلام.