إن مصر الحديثة هي واحدة من عدد قليل من البلدان، في منطقة الشرق الأوسط وربما أيضاً في جميع أنحاء العالم، التي يمكن وصفها بأنها مثال يحتذى للدولة الوطنية القوية. ويرجع سبب ذلك إلى حقيقة أن المواطنين والسلطة الحاكمة حريصون دائمًا على الحفاظ على اتحادهم تحت العلم المصري، والقيم الفريدة التي يمثلها اسم مصر وتاريخها، بغض النظر عن كل ما بين المصريين من اختلافات ديموغرافية أو ثقافية أو دينية. إلا أن العنصر الأهم للحفاظ على هذه الوحدة هو امتلاك مصر لجيش وطني قوي استطاع الحفاظ على تماسك واستمرارية الدولة الوطنية المصرية، رغم كل الأحداث العاصفة التي مرت بها على طول تاريخها الحديث.
أعادت وفاة المشير محمد حسين طنطاوي، الأسبوع الماضي، ذكريات أيام قاسية مرت بها مصر، أثناء ثورات الربيع العربي وما تلاها من فوضى أمنية انهارت بسببها بعض الدول، لكنها تؤكد على النقطة الهامة التي ذكرها الرئيس السيسي في خطابه أمام الأمم المتحدة حول أهمية النظر إلى الدولة الوطنية كنقطة ارتكاز لا غنى عنها للخروج من العثرات التي وقعت فيها المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات.
لقد لفت الرئيس السيسي أنظار العالم إلى أهمية احياء مفهوم الدولة الوطنية بين دول منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً تلك التي وقعت منها براثن الحروب الأهلية والتنظيمات الإرهابية، وذلك في كلمته أمام الدورة رقم ٧٦ للجمعية العامة للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، حيث قال: "إن منطقة الشرق الأوسط، كما تتسم بموقع استراتيجي فريد فإنها تحتل أيضا موقعا متقدما على قائمة مناطق العالم الأكثر اضطرابا... إذ بات مفهوم الدولة الوطنية القوية المتماسكة مهددا بعوامل اضطراب متعددة يكمن جوهرها في الانقسام والتشرذم بأنواعه المختلفة، سواء كان طائفياً أو سياسياً أو عرقياً، مما يجعل دولا غنية بمواردها الطبيعية وتاريخها وحضارتها العريقة... تعانى كل هذا الكم من التحديات الضخمة، وهو ما يؤكد أنه لا غنى عن إعلاء مفهوم الدولة الوطنية الجامع الذى لا يفرق بين أبناء الوطن الواحد ويحول دون التدخل في الشئون العربية."
لقد خدم المشير طنطاوي وزيراً للدفاع تحت حكم مبارك لمدة ثمانية عشر عاماً. رغم ذلك، عندما اندلعت الثورة ضد نظام مبارك عام ٢٠١١، لم يتردد لحظة في توجيه الجيش للانحياز إلى صف الشعب وتنفيذ الإرادة الشعبية حفاظاً على تماسك الدولة واستقرارها. إن الدور الذي لعبه المشير طنطاوي في الحفاظ على تماسك الدولة المصرية في أعقاب ثورة ٢٠١١ لا يقل بطولة عن الدور الذي لعبه تلميذه المخلص عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيراً للدفاع هو أيضاً أثناء الثورة الشعبية التي انطلقت ضد نظام الإخوان المسلمين، عام ٢٠١٣. لقد جسد كل منهما العقيدة العسكرية التي يتمسك بها الجيش المصري منذ الأزل، وهي أن مصر أولاً وفوق كل شيء.
بينما سقطت أغلب دول الربيع العربي في حفرة مظلمة من الحروب الأهلية وانتشار التنظيمات الإرهابية، التي ما زالت تعاني منها حتى اليوم، فإن الدولتين الوحيدتين اللتين نجيتا من مآسي الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورات الربيع العربي هما مصر وتونس. على الرغم من الخلافات الأولية حول السلطة مع الفصائل الإسلامية السياسية المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين، استطاعت مصر على الأقل استعادة النظام العام، والحفاظ على وحدة الدولة الوطنية، وإقامة نظام حكم فعال. لعب تعاون الجيش مع الحركات السياسية السلمية في كل من تونس ومصر، أثناء ثورات ٢٠١١، وما تلاها، دورًا أساسيًا في ضمان نجاحها في إزالة الأنظمة الديكتاتورية.
يقترح سيناريو الثورة المصرية، على وجه الخصوص، فرضية أن الجيش، باعتباره أحد الركائز الأساسية لدعم النظام الحاكم، يمكن أن يكون عامل حسم ليس فقط في نجاح أو فشل الحراك الشعبي ضد نظام ديكتاتوري، ولكن أيضًا في تحديد المجريات السياسية التي تعقب نجاح الحراك الشعبي في إسقاط النظام. فقد نجح الجيش المصري في احتواء النشطاء الشباب المؤيدين للديمقراطية والليبرالية في ثورة يناير ٢٠١١، وبعد ذلك نجح عبر الوسائل السياسية والسلمية في إضعاف وتفكيك جماعات الإسلام السياسي التي حاولت استغلال الخواء السياسي وسذاجة الثوار الشباب في الاستحواذ على السلطة، بعد سقوط نظام مبارك.
كانت علاقة التكاتف التي نشأت بين الجيش المصري والثوريين الشباب من مؤيدي الديمقراطية، طوال ثمانية عشر يومًا من الاحتجاجات في ميدان التحرير، في عام ٢٠١١، هي أهم عامل ساعد على تسريع وتيسير عملية إزالة نظام مبارك، وإدارة المرحلة الانتقالية التي تلت ذلك. وكان سيناريو الربيع العربي المصري فريدًا من حيث أنه لم يكن صراعاً تقليدياً بين حراك شعبي سلمي ضد قوة مسلحة تابعة للدولة، بل كانت الثورة المصرية، في الجزء الأكبر منها، عبارة عن صراع سلمي منسق بين المتظاهرين السلميين والجيش المتعاطف تماماً معهم ضد الإسلاميين وغيرهم ممن حاولوا سرقة الثورة، وهذا هو سر نجاح الثورة في مصر وعبور مصر من المرحلة الانتقالية التي تلتها دون أي تهديد لتماسك الدولة الوطنية.
في النهاية أذكر لحظتين ملهمتين تؤكدان على أهمية توطيد الرابطة بين المكونات الرئيسية الثلاثة للدولة الوطنية المصرية، المتمثلة في المواطنين والجيش والقيادة السياسية الحاكمة. أولها هو شعار "الشعب والجيش إيد واحدة" والذي كان يتغنى به الناس في ميدان التحرير يوم ٢٨ يناير ٢٠١١، عندما نزلت قوات الجيش إلى الميدان لدعم الثورة وإرادة الشعب. والثانية، عندما توقف الرئيس السيسي، أثناء خطابه أمام المؤتمر الوطني للشباب، في عام ٢٠١٦، وجمع أصابع يده في قبضة واحدة، ثم قال: "طول ما احنا كده، إيد واحدة، ما فيش حد هيقدر علينا".
هذا بالضبط هو السر الذي حافظ على استمرارية وقوة الدولة الوطنية المصرية في مواجهة كل التحديات التي سبقت والتي ستأتي. سر بقاء الدولة الوطنية يكمن في بقاءنا يد واحدة.