Tuesday, September 07, 2021

الدور السياسي للإعلام بين الدولة والعوام


وصف أرسطو الإنسان بأنه "حيوان سياسي"، وهناك إحصائيات تدعي أن شئون السياسة هي أكثر ثاني شيء، بعد الحب، يتحدث فيه البشر. يمكنك قياس صحة هذه الفرضيات بسهولة عبر مراقبة منشورات الأفراد على منصات التواصل الاجتماعي. جميعنا يتحدث في السياسة، وكل منّا يمارسها بطريقته وبما يتيسر له من أدوات وبما يكتسبه من تأثير في دوائر بعينها. بمعنى أخر، كلنا مدمنون على السياسية. لكن انتبه، كونك مدمن سياسة لا يؤهلك مطلقاً أن تكون صانع سياسات ولا صاحب قرار، هذه مهمة معقدة للغاية، تتطلب علم وخبرة وقدرة جبارة على تحييد المشاعر والأهواء الشخصية والتركيز فقط على المصلحة العليا للدولة، مع الأخذ في الاعتبار الاحتمالات التي يخبأها المستقبل. 

إن السياسة هي فن استغلال الممكن، وهذا أمر يتطلب أعلى درجات المرونة والقدرة على المناورة. سياسة كل دولة، محلية كانت أو خارجية، هي في حالة تغير مستمر، وليس لها ثوابت، ولا تعترف بالمشاعر، ولا تفهم إلا لغة المصالح. بل إن الدولة التي تستقر فيها عملية صناعة السياسة لسنوات طويلة على وتيرة واحدة وشكل واحد وعبر قنوات وأدوات واحدة، غالباً ما يكون هذا مؤشر خطر على أنها في نهاية دورتها الحياتية، تماماً كخلايا الجسد التي تحتاج لتجدد دماء مستمر حتى لا تموت، أو العقل الذي يحتاج لتجدد الفكر والابتكار بشكل متواصل، وإلا وهن وتعطلت وظائفه. هذه قاعدة يفهمها صانعو السياسات بشكل جيد، لكن لا يفهمها العامة الذين تتحكم فيهم عواطفهم وتحيزاتهم. 

هناك حالة من الارتباك، يشوبها الكثير من الاستياء واللوم، تنتشر بين العامة في مصر وغيرها من الدول العربية، منذ فترة، وهم يراقبون قاداتهم السياسيين قد قرروا طي صفحة الخلافات التي فرقتهم لسنوات والتعاون معاً، بشكل براجماتي تماماً، على خلفية المصالح المشتركة فيما بينهم، إما على المستوى الثنائي أو الإقليمي. مع الأسف، فقد خلق هذا فجوة صغيرة بين الدولة والمواطن، وساهم في ذلك غياب أي تحرك من جانب الدولة أو أدواتها الإعلامية، الرسمية أو غير الرسمية، التقليدية أو الحديثة، لاحتواء حالة التشويش هذه، وشرح ما يجري بصورة يستطيع الناس فهمها، ومن ثم رفع درجة النضج السياسي لدى العامة لمستوى النضج الذي وصلت له القيادة السياسية، خصوصاً فيما يتعلق بملف العلاقات الخارجية.

بدأت الفجوة في الظهور جراء رد الفعل الغاضب لبعض الجماهير تجاه اتفاق العلا، الذي تم توقيعه في شهر يناير بين مصر والسعودية والإمارات والبحرين وقطر، وشهد على إنهاء مرحلة خصومة استمرت لأربعة سنوات، ووصلت أوجها ونحن نراقب مشاهد الود والتآلف التي جمعت بين القيادات السياسية في مصر والإمارات مع أمير قطر، بشكل منفصل، على هامش قمة بغداد، الأسبوع الماضي. فقد دفع المشهد الكئيب والدامي في أفغانستان دول الشرق الأوسط إلى التخلي عن صراعاتها الداخلية والتركيز على التنسيق، على أساس براجماتي بحت، على صد التهديدات العديدة المتوقع ظهورها من الأحداث المتدهورة بسرعة من حولهم.

كانت المعارك الإعلامية هي أبرز ملامح تلك المرحلة. ولأن العامة يتأثرون بالإعلام أكثر من أي شيء، لأنه يجيد خطاب المشاعر، اختار الكثير من الناس صب هذا الغضب على الإعلاميين، واتهموهم بأنهم ضللوهم بأن شحنوا مشاعرهم لسنوات ضد دول بعينها، ثم بين ليلة وضحاها قررت الدولة المصرية أن تتصالح مع هذه الدول. لكنه اتهام في غير محله، فلا يمكنك أن تتهم جندي في معركة أنه كان يحارب وهو متحيز لدولته، هذا التحيز والتعصب هو الوقود الذي جعله ينجح في معركته، وقد كان رجال الإعلام بالفعل جنود المعركة الإعلامية في هذه المرحلة. 

على الرغم من أن المصالحات بين الدول أمر طبيعي جداً في عالم السياسة والعلاقات الدولية، حيث لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، إلا أن كثير من العامة قد أصبحوا يرون المسائل السياسية، وعلاقاتنا مع الدول الأخرى، بشكل شخصي. السبب في ذلك هو أنهم بالفعل قد استثمروا من أعصابهم ومجهودهم ووقتهم ما جعلهم يتوهمون بأنهم جزء من هذه المعركة السياسية، والسبب في ذلك هو انخراطهم في اتخاذ مواقف حادة بشأن هذه القضايا على فضاء السوشيال ميديا الذي يشجع على الاستقطاب والتعصب للمواقف والأفكار بشكل مؤذي إلى أقصى حد. على عكس ما كان يحدث في الماضي مثلاً، حيث كان المواطن العادي مجرد متابع أو متفرج على أحداث السياسة الخارجية من خلال شاشة تليفزيون أو صفحات جريدة بما يخلق مساحة صحية لعزل ذاته ومشاعره عن ما يجري، حيث أنه وإن كان مدمن سياسية، فهو ليس صانع سياسة. 

ستحمّل الفترة القادمة مهمة ثقيلة وكبيرة على كاهل الإعلام، خصوصاً جنود مصر الذين ناصروها ونصروها في المعركة الإعلامية الضارية التي مرت بها السنوات الماضية. عليهم أولاً أن يتقبلوا ما يلاقونه من لوم من جانب عامة الجماهير بصدر رحب، ويساعدوهم على فهم ما يجري من تناقضات ربما أعمتهم مشاعرهم الفياضة تجاه وطنهم عن رؤية أسبابها. بالتوازي مع هذا، آن الأوان أن تتغير السياسة الإعلامية في مصر بشكل عام، من إعلام حرب متحيز ومنفعل إلى إعلام استقرار يتبنى لغة هادئة وعقلانية تضع حدود واضحة بين دور المواطن كمتلقي لقرارات الدولة وكشريك ومؤثر في هذه القرارات. أما الأدوار الوهمية التي يحب البعض على السوشيال ميديا تقمصها، لدرجة تجعله أحياناً يدعي أنه يفهم في شئون السياسة أكثر من القيادة السياسية نفسها، فهي تحتاج لتدخل أطباء نفسيين.