تشهد مصر تحولات سياسية غير مسبوقة في إطار انفتاح الدولة على إصلاح أدائها فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان. قد يعتقد البعض أن الضغوط الخارجية التي يمارسها بعض الحلفاء المهمين، مثل الولايات المتحدة، منذ فترة هي المحفز لذلك التحول الإيجابي، خصوصاً بعد أزمة قرار الإدارة الأمريكية اقتطاع جزء من المساعدات العسكرية شريطة تحسين حالة حقوق الإنسان في مصر، لكن سيكون في ذلك إجحاف كبير تجاه رغبة القيادة السياسية الصادقة في تحسين الحقوق السياسية والحريات المدنية لصالح المواطنين بما يتوافق مع واقع الحياة في ظل الجمهورية الجديدة، التي قضى الرئيس السيسي سنوات طويلة في بناءها، وما زال.
فمنذ بداية سبتمبر، أخذت القيادة السياسية للرئيس السيسي تبث بضع نسمات دافئة في الجسد المتجمد للحريات المدنية والسياسية في مصر. كان أولها في منتصف سبتمبر بإعلان الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي تحدد الرؤية الشاملة للدولة تجاه تحسين أداء حقوق الإنسان بين سلطات الدولة، فضلاً عن تعزيز الحريات السياسية ومواصلة خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي نجحت الدولة فيها بشكل مبهر حتى الآن. بعد ذلك بأسبوعين، أعلن البرلمان تشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهي الخطوة التي تم تأجيلها قرابة خمس سنوات في ظل قانون الطوارئ الاستثنائي، بما أثر بدرجة كبيرة على عمل المجلس، وهو الكيان الأهم فيما يتعلق بتعزيز حقوق الإنسان في مصر.
لكن المفاجأة الأكبر في هذا الصدد كانت قرار الرئيس السيسي الأسبوع الماضي، يوم ٢٥ أكتوبر، بإنهاء حالة الطوارئ التي تم تطبيقها في مصر عام ٢٠١٧ كرد فعل على العمليات الإرهابية التي استهدفت المواطنين المسيحين في كنيستي ماري جرجس بطنطا وماري مرقص بالإسكندرية. بحسب الإحصاءات الرسمية لوزارة الصحة المصرية، آنذاك، أودت التفجيرات بحياة ٤٥ مواطن وإصابة ١٢٨ آخرين. مع الأسف، وصل الاستهداف الإرهابي للمواطنين المسيحيين إلى ذروته في هذه الفترة، وكان لزاماً على الدولة أن تتدخل بإجراءات استثنائية لوضع حد لهذه المجزرة. من ثم، عقد الرئيس السيسي اجتماعاً مع مجلس الدفاع الوطني، في أبريل ٢٠١٧، أعلن بعده فرض حالة الطوارئ في البلاد وفقاً لما ينظمه الدستور وقانون الطوارئ المعمول به منذ عام ١٩٥٨.
أثار الإعلان الرئاسي لحالة الطوارئ في ذلك الوقت مخاوف جماعات حقوق الإنسان داخل مصر وخارجها، وكان المصدر الحقيقي للقلق هو الخبرة السيئة لنا مع حالة الطوارئ في ظل حكم الرئيس السابق مبارك، والذي استمر العمل بحالة الطوارئ لمدة ٣٠ عام هي طول فترة حكمه، وتم استغلالها بشكل سيء للغاية في قمع الحريات وتعزيز سلطة الدولة على حساب حرية ورفاهية المواطنين. ونذكر أيضاً أن أول بند في قائمة المطالب التي حملها المتظاهرون في ثورة يناير ٢٠١١ كان المطالبة بإلغاء حالة الطوارئ. لهذا استمرت هذه المخاوف، رغم قرار الرئيس السيسي، بتفويض جميع الصلاحيات الاستثنائية الممنوحة له بموجب قانون الطوارئ رقم ١٦٢ لسنة ١٩٥٨ إلى رئيس مجلس الوزراء حتى لا يتهم بإساءة استغلالها.
بالنظر إلى هذا المشهد، فليس من شك أن إعلان الرئيس السيسي إنهاء حالة الطوارئ، الأسبوع الماضي، قد تسبب في ارتياح للكثيرين، خصوصاً داخل مصر، نظراً لما يعد به هذا الإجراء من أن مصر بدأت أخيرًا باتخاذ خطوات حقيقية نحو مسار الإصلاح الديمقراطي، بعد ما يقرب من عقد كامل لم يكن ذلك أمر ممكن طرحه في ظل إعطاء الدولة الأولوية لمكافحة الإرهاب.
بينما نحتفل بهذه اللحظة المهمة، هناك دروس مهمة علينا استخراجها من تجربة مصر الجديدة في ظل أربع سنوات من الطوارئ، وأهمها هو السؤال عن جدوى تطبيق الدول لإجراءات استثنائية مؤقتة بهدف محاربة الإرهاب، وإلى أي مدى يمكن أن يعود ذلك بالفائدة أو الضرر على عملية بناء الديمقراطية. وربما ما يجعل هذا السؤال أكثر إثارة للاهتمام هو حقيقة أن بعض الدول المتقدمة ديمقراطياً (مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة) ما زالت تعمل في ظل حالة الطوارئ منذ سنوات طويلة، تمتد إلى عقود في الحالة الأمريكية مثلاً. لكن رغم ذلك، فإن هذا الإجراء الاستثنائي لم يضر بشكل ملحوظ بوضع حقوق الإنسان والديمقراطية في أي منها.
إن فرض حالة الطوارئ هو إجراء يعيق التحول الديمقراطي ويؤثر على المناخ الليبرالي بلا شك، لكن هذا الأثر عادة ما يكون قصير المدى، خصوصاً إذا تم تطبيقه بشكل صحيح، وفي ظل دستور يعزز ويحمي حقوق الإنسان حتى في ظل الإجراءات الاستثنائية، ومن ثم فقد يكون لفرض الطوارئ أثر في تعزز التقدم الديمقراطي على المدى الطويل. ينطبق هذا الطرح بشكل خاص في حالة مكافحة تمدد التنظيمات الإرهابية داخل أواصر الدولة، خصوصاً لو كانت دولة ضعيفة أو تمر بمرحلة انتقال سياسي معقدة، مثلما كان الحال في مصر خلال العقد المنقضي، حيث يكون هدف الإرهاب هو تدمير نظام وهيكل الدولة الوطنية، وجعلها غير قادرة على مواصلة العمل وتلبية احتياجات المواطنين. نتيجة لذلك، تعم الفوضى السياسية على الدولة ويسيطر الغضب على المواطنين، بما يخلق أرضًا خصبة لنمو الفكر الإرهابي وجذب المؤيدين له أيضاً.
في بعض الأحيان، يجب على الدولة أن تبادر بتطبيق إجراءات استثنائية مؤقتة، بشكل حكيم وفي إطار سيادة القانون، لمنع هذا السيناريو المعزز لانتشار الإرهاب من الحدوث. هذا هو بالضبط ما أنجزته الدولة المصرية بنجاح، مستخدمة حالة الطوارئ، في الأربع سنوات الماضية.