تواجه حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، التي تولت العمل رسمياً الشهر الماضي، تحدٍ كبير للخروج بليبيا من أزمة طويلة أنهكتها على مدى عقد مضى، وتتطلب عقود قادمة من أجل إصلاح ما أفسدته هذه المرحلة، التي شهدت فيها البلاد انتشار واسع للتنظيمات الإرهابية، وحالة من الفوضى المستمرة سمحت بتشكيل أكثر من ثلاثمائة ميليشيا مسلحة تضم بين صفوفها عشرات الآلاف من الشباب الليبي، الذين كانوا في عمر الطفولة وقت اندلعت ثورات الربيع العربي التي أطاحت بنظام القذافي قبل عشر سنوات، وكبروا وهم لا يعرفون عن بلادهم سوى أنها ساحة كبيرة لحروب داخلية وخارجية، حيث انتهزت العديد من القوى الدولية والإقليمية فرصة الوهن الذي وقعت فيه ليبيا، وسمحوا لأنفسهم بالتدخل العسكري في ليبيا، تحت شعارات ومبررات مختلفة، تخفي حقيقة أطماعهم في الاستفادة من ثروة ليبيا النفطية وموقعها الجغرافي الذي جعلها صاحبة أحد أكبر السواحل المطلة على البحر المتوسط الغني بغاز الهيدروكربون، الذي تعتمد عليه أغلب الدول الأوروبية في توفير الطاقة.
يتمثل التحدي الذي يواجه حكومة الوحدة الوطنية في توحيد الفصائل المتصارعة في ليبيا، شرقاً وغرباً، وتجهيز البلاد لانتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية العام الجاري، أي في غضون أقل من سبعة أشهر، ويتطلب ذلك، وفق الجدول الزمني المتفق عليه مع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، إعداد نظام سياسي وتشريعي للانتخابات قبل حلول شهر يوليو، وهو الأمر الذي يتطلب الإسراع في نزع فتيل الصراعات العسكرية بين الميليشيات التي تعمل لصالح الفصائل السياسية المختلفة، وأيضاً إخراج كل القوات العسكرية الأجنبية الموجودة حالياً في البلاد، وعشرات الآلاف من المرتزقة التابعين لها، والذين يشكلون العائق الأكبر أمام التحول السياسي المنشود.
يبدو أن رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة يعلم جيداً أن المهمة الصعبة جداً الملقاة على عاتقه لن يتم إنجازها إلا بوضع حد للصراعات بين القوى الخارجية المتنافسة على الجسد الليبي المنقسم، واقناعهم بسحب قواتهم والمرتزقة التابعين لهم من بلاده. منذ توليه رئاسة حكومة الوحدة الوطنية، رسمياً في شهر مارس، نشط الدبيبة، بشكل ملحوظ، في عمل زيارات خارجية للدول المهمة والمؤثرة في الملف الليبي، ومنها روسيا وتركيا ومصر والإمارات، والتي لعبت أدواراً أثرت، سلبياً أو إيجابياً، في مجريات الحرب الأهلية التي عانت منها ليبيا لسنوات، ووصلت أوجها في العام ٢٠٢٠، بسبب تدفقات المرتزقة إلى داخل البلاد بأعداد غير مسبوقة.
وفق تقديرات الأمم المتحدة، المعلنة في اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعت في أكتوبر الماضي، يوجد داخل ليبيا أكثر من عشرين ألف مرتزق، أغلبهم من سوريا، وأغلبهم يعملون تحت قيادة القوات التركية المتمركزة في طرابلس، منذ وقعت تركيا اتفاقية عسكرية مع الحكومة السابقة، حكومة الوفاق، في ديسمبر ٢٠١٩. على مدار العام ٢٠٢٠، تجاوز عدد العسكريين الأتراك المبعوثين إلى ليبيا أكثر من ثلاثة آلاف ضابط وخبير عسكري، تولوا قيادة المليشيات التابعة لحكومة الوفاق الوطني والمرتزقة الذين جندتهم تركيا، ويصل عددهم إلى حوالي ثمانية عشر ألف مقاتل، أغلبهم سوريين، وفقاً لبيانات صادرة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهذا رقم ضخم إذا ما قورن بمرتزقة روسيا البالغ عددهم نحو ثلاثة آلاف مقاتل، ضمن مجموعة فاغنر، التي تعمل في المدن الشرقية دعماً للجيش الوطني الليبي وقائده خليفة حفتر.
في الأسبوع الأول لإدارة الرئيس الأمريكي بايدن، دعا ريتشارد ميلز، القائم بأعمال السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة، كل من "روسيا وتركيا والإمارات إلى احترام السيادة الليبية والتوقف عن التدخل في شئون ليبيا وسحب كل القوات العسكرية الأجنبية من على أراضيها"، حيث أنه وفقًا لاتفاقية وقف إطلاق النار التي أشرفت عليها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الموقعة في شهر أكتوبر الماضي، كان من المفترض أن تغادر ليبيا جميع القوات الأجنبية وميليشيات المرتزقة التابعة لهم، قبل تاريخ ٢٣ يناير الجاري. لكن لم تختر أي من القوى الأجنبية المذكورة، بالأخص تركيا وروسيا، مغادرة ليبيا في الموعد المحدد. وفي شهر ديسمبر، صدق البرلمان التركي على قرار تمديد تواجد الجيش التركي في ليبيا لمدة ثمانية عشر شهراً تالية.
لكن في منتصف شهر مارس، أظهرت تركيا مرونة غير مسبوقة بشأن الملف الليبي بشكل عام، وملف المرتزقة بشكل خاص، ربما رغبة منها في تأسيس شكل جديد للعلاقات بين تركيا وليبيا قائمة على التكافؤ الدبلوماسي الأعم والأشمل من حالة الاعتمادية العسكرية التي كانت تربط البلدين في الفترة السابقة، حيث قررت تركيا سحب المرتزقة التابعين لها على دفعات، بعد التنسيق مع الحكومة الليبية للاحتفاظ بالاتفاقية العسكرية والاستمرار في تقديم أنشطة الدعم والتدريب والاستشارة للجيش الليبي الذي قامت تركيا بتشكيل النواة الأولى له، في إطار الاتفاقية العسكرية التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق العام الماضي. وفق تصريحات لوزير الدفاع التركي خلوصي أكار، أدلى بها نهاية العام الماضي، قامت تركيا بتدريب وتأهيل ثلاثة آلاف عسكري ليبي عبر معسكرات تدريبية تابعة لتركيا في ليبيا بالإضافة إلى الكليات العسكرية في تركيا. جدير بالذكر هنا أن أغلب الليبيين الذين تم إعدادهم في معسكرات التدريب التركية كانوا عناصر في ميليشيات تابعة لحكومة الوفاق وغيرها من الفصائل السياسية في غرب ليبيا.
على الجانب الآخر، لا يبدو أن روسيا مستعدة حتى الآن لسحب قواتها ومرتزقتها من ليبيا. أثناء زيارته للقاهرة الأسبوع الماضي، تهرب وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، من الرد على سؤال قدمه صحفي مصري حول إذا ما كانت روسيا ستتخذ خطوات عملية لإخراج المرتزقة التابعين لها من ليبيا، واكتفى لافروف برد دبلوماسي غامض أكد فيه على أن بلاده تحترم قرارات الأمم المتحدة والقرارات الناتجة عن مفاوضات المجموعة العسكرية (٥+٥). وبعد ذلك بأيام، قام رئيس الوزراء الليبي، عبد الحميد الدبيبة، بزيارة روسيا، وعقد مباحثات مع عدد مسؤولين، من بينهم وزير الدفاع الروسي، أكدا فيها على ضرورة سحب المرتزقة وتوطيد التعاون العسكري بين الدولتين.
في خضم ذلك، جاء قرار مجلس الأمن الأخير، الصادر يوم ١٦ أبريل، بمثابة إعلان عن تجديد دعم المجتمع الدولي لحكومة الوحدة الوطنية في مهمتها الصعبة ضد ميليشيات الداخل ومرتزقة الخارج، حيث أعلن مجلس الأمن بالأمم المتحدة تبنيه بالإجماع قرار يدعم العملية السياسية في ليبيا، ويدعو كافة القوات الأجنبية والمرتزقة التابعين لهم للخروج فوراً من ليبيا، دون تراخي أو تأخير. كما قرر مجلس الأمن نشر فريق من ستين مفوض مدني لمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل المتصارعة في ليبيا.
لكن برغم كل ذلك، يبقى السؤال المهم بلا إجابة واضحة حول إذا ما كانت كل هذه المجهودات المحلية والإقليمية والدولية ستنجح في شفاء ليبيا من سرطان المرتزقة والتدخلات الأجنبية، وهو أمر لو تحقق في الإطار الزمني الذي حددته الأمم المتحدة، أي في غضون الشهور القليلة القادمة، سيكون أشبه بالمعجزة.