لعل من الوهم افتراض أن النزاع القائم بين مصر وإثيوبيا حول بناء وملء سد النهضة، لم يصل إلى درجة الحرب بعد. إن مصر وأثيوبيا منخرطتان بالفعل في صراع أشبه بحالة حرب، منذ أعلنت أثيوبيا بناء سد على منبع النيل الأزرق الداخل في نطاق أراضيها، عام ٢٠٠٩. صحيح أنها ليست حربًا تقليدية، بحيث يتم فيها نشر الدبابات وإرسال المقاتلات ضد بعضها، إلا أنها قد تتصاعد إلى هذه الصورة المدمرة، في أي لحظة، وربما أقرب مما نتصور. ولو حدث ذلك، واندلع صراع عسكري بين مصر وإثيوبيا، فلن يؤثر ذلك فقط على أمن إفريقيا شرقاً أو شمالاً، ولكن أيضًا سوف يؤثر على أمن الشرق الأوسط واستقرار أوروبا، خصوصاً دول الجنوب، وهذا ما يجعلنا مندهشين من تجاهل العالم للأزمة، وكأنها قضية محلية وليست مسألة خطيرة تشكل تهديد حقيقي على الأمن الدولي.
كانت المفاوضات الفاشلة بين مصر والسودان وإثيوبيا، في كينشاسا، عاصمة الكونغو، أوائل شهر أبريل، هي الأحدث في قائمة طويلة من المفاوضات الفاشلة، التي جرت على مدار العشر سنوات الماضية دون أن تؤدي لأي نتيجة في الاتجاه الصحيح، وقد وصلت مصر الآن لمرحلة أصبحت ترى فيها لا طائل من أي مفاوضات جديدة مع أثيوبيا، فقد أعلن وزير الري والموارد المائية المصري، بعد عودته من كينشاسا، أن مصر لن تضيع المزيد من الوقت في التفاوض مع إثيوبيا. في الواقع، لم تلتزم إثيوبيا أبدًا بأي من نتائج المفاوضات التي جرت خلال العقد الماضي. بل على العكس، استخدمت إثيوبيا المفاوضات كذريعة لمنع مصر من طلب تدخل المجتمع الدولي، لا سيما هيئات أممية مثل مجلس الأمن، لإجبار إثيوبيا على توقيع اتفاقية معترف بها دوليًا تحمي حصة مصر، كدولة مصب، في الموارد المائية لنهر النيل.
بدأ الخلاف بين إثيوبيا ومصر في التطور إلى شكل أكثر حدة في أبريل ٢٠١١، عندما اتخذت إثيوبيا قرار أحادي الجانب ببناء سد النهضة، بغض النظر عن آثاره الخطيرة على مقومات الحياة في دول حوض النيل الأخرى، وخاصة دول المصب؛ مصر والسودان. في ذلك الوقت، كان الجيش المصري مشغولاً بالحفاظ على هيكل الدولة في مواجهة الفوضى التي أعقبت ثورة الربيع العربي التي أطاحت بنظام مبارك. قبل ذلك، ومنذ حقبة السبعينيات، لطالما حلمت إثيوبيا ببناء سد ضخم على النيل الأزرق، إلا أن التماسك والدور القيادي لمصر في الشرق الأوسط وأفريقيا قد ردع إثيوبيا عن اتخاذ خطوات حقيقية نحو بناء السد. وعلى الرغم من مشاكلها الداخلية، خلال التحولات السياسية الحادة التي حدثت في الفترة ما بين ٢٠١١ و٢٠١٤، انخرطت مصر في حرب دبلوماسية مع إثيوبيا، تراوحت بين المناشدات الودية والدعوات الدبلوماسية للمفاوضات، وصولاً إلى التهديدات المباشرة وغير المباشرة بشن الحرب وتدمير السد.
السبب السياسي المعلن الذي تبرر به إثيوبيا بناء السد هو حاجة الحكومة إلى توليد الكهرباء لأكثر من ٦٥٪ من السكان المحرومين منها في مناطق بعيدة عن العاصمة. لكن في حقيقية الأمر، هناك اعتقاد غريب وغير منطقي شائع بين الأثيوبيين وتروج له الحكومة محلياً، بأن النيل الأزرق هو ملك لأثيوبيا لأنه حسب ادعاءهم "جعله الله ينبع من أراضيهم"، وبناء عليه، يعتقد الإثيوبيون أن من حقهم حبس مياه النيل خلف السد وبيعها لدول أخرى، مثلما تبيع دول الخليج العربي النفط والموارد البترولية المستخرجة من أراضيها. هذه المزاعم غير المنطقية وغير المشروعة من قبل الإثيوبيين بامتلاك مياه النيل، هي مصدر قلق حقيقي بالنسبة لكل دول حوض النيل، وبالأخص مصر والسودان.
يمثل النيل أكثر من ٩٠٪ من الموارد المائية في مصر. بل في حقيقة الأمر، يمثل النيل أكثر من مجرد مصدر لمياه الشرب للمصريين. الحضارة المصرية العظيمة التي ألهمت العالم لآلاف السنين، قامت اعتماداً على الزراعة على ضفتي النيل. ومن ثم، فإن تعريض مصب النيل في مصر للجفاف، أو السماح لإثيوبيا بالسيطرة على مصب النهر، عبر سد قامت ببنائه في نقطة المنبع، هو أمر معادل للموت البطيء بالنسبة للمصريين. من هذا المنطلق، تصر مصر على توقيع اتفاقية ملزمة مع إثيوبيا، وفقًا للقانون الدولي، تمنع إثيوبيا من أي محاولة مستقبلية للسيطرة على النهر أو منع تدفقه في مساره الطبيعي باتجاه البحر المتوسط، عبر الأرض المصرية. لكن حتى هذه اللحظة، وبرغم إهدار عشر سنوات في مفاوضات وأنشطة دبلوماسية، لا تزال إثيوبيا ترفض التوقيع على مثل هذا الاتفاق.
في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وسط حالة من الصمت واللامبالاة من قبل المجتمع الدولي، بدأت مصر باتخاذ خطوات فعلية نحو التحضير لخيار خوض الحرب مع إثيوبيا، إذا استمرت في تجاهل مخاوف مصر المتعلقة بالأمن المائي. وليس خفياً أن الفجوة الهائلة بين القدرات العسكرية لمصر والقدرات العسكرية لإثيوبيا تجعل مصر في وضع أفضل بكثير في حالة اندلاع حرب كهذه بين البلدين. كما أن النزاعات المسلحة بين إثيوبيا وجيرانها المباشرين، السودان وإريتريا، على مناطق حدودية، والتي تصاعدت حدتها مؤخراً، تعزز الموقف الاستراتيجي لمصر بشأن أي نزاع مسلح محتمل مع إثيوبيا. في منتصف مارس، أرسل الرئيس المصري تحذيرًا واضحًا لإثيوبيا مفاده أنه إذا فشلت المفاوضات، فإن النزاع قد يتم تصعيده بشكل قد يضر باستقرار المنطقة كلها، وأكد الرئيس المصري أن جميع الخيارات مفتوحة أمام مصر لاتخاذ ما تراه مناسباً للتعامل مع التعنت الأثيوبي.
في بداية شهر مارس، وقعت مصر اتفاقية تعاون عسكري مع السودان تسمح للبلدين بتوحيد قواهما العسكرية في مواجهة التهديدات الإقليمية. وفي الشهر نفسه، أجرت مصر والسودان عددًا من التدريبات العسكرية المشتركة في قاعدة مروي العسكرية بجنوب السودان بالقرب من سد إثيوبيا. وفي تلك الاثناء أيضاً، أشرف وزير الدفاع المصري ورئيس الأركان على مناورات عسكرية في المنطقة الاستراتيجية بجنوب مصر. وفي أوائل شهر أبريل، وقعت مصر اتفاقية عسكرية مع أوغندا، حيث ينبع النيل الأبيض الذي يتصل بالنيل الأزرق ويعتبر أحد منابعه، لتبادل المعلومات الاستخباراتية حول القضايا الإقليمية الحساسة، وسيكون في القلب منها بطبيعة الحال معلومات تتعلق بتحركات أثيوبيا في ملف سد النهضة وغيره. وقد قال وزير الخارجية المصري، في اجتماع عقده مؤخراً مع لجنة الشؤون الإفريقية بالبرلمان المصري، الأسبوع الماضي، إن مصر ستتواصل قريبا مع إريتريا لعقد اتفاقيات مماثلة.
بينما يتصاعد الصراع بين مصر وإثيوبيا إلى عتبة الحرب، يلعب المجتمع الدولي دور الأصم الأبكم الأعمى تجاه الأزمة. فقد انسحبت الولايات المتحدة من دورها كوسيط في حل النزاع، والذي سبق وتبنته إدارة ترامب. بينما رفضت الصين، وهي أكبر مستثمر في رأس المال التشغيلي للدولة الأثيوبية، طلب مصر منها التدخل للضغط على إثيوبيا لتوقيع الاتفاقية الملزمة لحماية حصة مصر، وبررت الصين ذلك بأن لديها صراع مماثل مع الدول المجاورة على نهر ميكونج، تتبنى فيه الصين موقفًا مشابهًا لموقف إثيوبيا من نهر النيل. كما تواصلت مصر مع حليفتها العسكرية روسيا للمساعدة في حشد مجلس الأمن الدولي للتدخل كوسيط وإلزام إثيوبيا بتوقيع اتفاق يضمن حصة مصر والسودان في نهر النيل. لكن يبدو أن روسيا غير مهتمة بالتدخل في هذه القضية. في زيارته الأخيرة للقاهرة، الأسبوع الماضي، قال وزير الخارجية الروسي إن بلاده تقدر أهمية قضية سد النهضة بالنسبة لمصر، لكنه يعتقد أن "هذه مسألة أفريقية يجب حلها من خلال الاتحاد الأفريقي". لكن مع الأسف، فإن الاتحاد الأفريقي نفسه، الذي يتوسط بين مصر وإثيوبيا في حل هذا النزاع منذ سنوات، لم ينجح في تحريك الأمور في الاتجاه الصحيح حتى الآن.
إن المجتمع الدولي يرتكب خطأ كبير باستمراره في تجاهل الصراع المتصاعد بين مصر وأثيوبيا على نهر النيل، ظناً منه بأنه مجرد تنافس إقليمي قد لا يؤثر على العالم الغربي. لكن واقع الأمر يقول بأن الفشل المستمر للمفاوضات وغيرها من أدوات التأثير والضغط الدبلوماسي قد يصل بالبلدين إلى نقطة تهدد أمن واستقرار إفريقيا، بما سيكون له أصداء مدمرة أيضاً في أوروبا. إن استقرار مصر والحفاظ على أمنها القومي هو أمر ضروري لضمان أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا والبحر المتوسط. ومن هذا المنطلق، يقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية التدخل بشكل سريع لمنع إثيوبيا من الاستمرار في ملء السد، قبل التوقيع على اتفاقية ملزمة تضمن حقوق دول المصب، مصر والسودان، في الموارد المائية لنهر النيل.