Thursday, January 28, 2021

الإسلام السياسي بين تركيا أردوغان ودول الربيع العربي


 

تحل هذه الأيام الذكرى العاشرة لثورات الربيع العربي، التي لعبت دوراً لا يستهان به في تغيير واقع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد كانت تركيا، ورئيسها رجب طيب أردوغان، حاضرين بشكل لا يمكن تجاهله في كل الأحداث السياسية التي أعقبت الربيع العربي، ليس فقط بفضل القرب الجغرافي لتركيا من الدول العربية التي مرت بهذه التجربة القاسية، خصوصاً مصر وسوريا، وبالتالي تأثر مصالح تركيا المباشر بما يجري فيها من تطورات، ولكن أيضاً نظراً للتشابه الديني والثقافي والإرث التاريخي المشترك بين تركيا وهذه الدول، والذي جعل كثير من المراقبين والأكاديميين حول العالم، وفي داخل الدول العربية أيضاً، يروجون لأن نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا هو الأقرب من حيث التطبيق لشكل الحكم الديمقراطي المنتظر في الدول العربية التي مرت بثورات على أنظمتها الحاكمة القائمة منذ عقود. 

بعد أشهر قليلة من اندلاع ثورات الربيع العربي، تحديداً في منتصف سبتمبر ٢٠١١، وبينما كان العالم كله ينظر بإعجاب شديد إلى الشباب الذي قاد هذه الثورات ويقدم لهم النصائح بشأن إقامة دولة ديمقراطية مثالية، قام رجب طيب أردوغان، والذي كان يشغل منصب رئيس وزراء تركيا، آنذاك، بعمل زيارة إلى دول الربيع العربي، استهلها من مصر. فقد كان أردوغان من أوائل الرؤساء في العالم الذين أيدوا الحراك الشعبي، وطالب علناً في الأيام الأولى للثورات بسقوط كل من نظامي مبارك في مصر والأسد في سوريا.

أتى أردوغان إلى مصر، حينها، راغباً في نقل تجربة تركيا في بناء دولة ديمقراطية إلى مصر الجديدة، مصر ما بعد الثورة، وفي القلب منها تجربة حزبه، حزب العدالة والتنمية، الذي كان يروج له بشدة حول العالم على أنه الحزب السياسي الوحيد الذي تمكّن من الجمع بين قيم العلمانية والقيم الإسلامية، وبالتالي كان كثيرون في داخل العالم العربي، وفي مصر تحديداً، وأيضاً كثيرون حول العالم يرون في نموذج العدالة والتنمية في تركيا النموذج الديمقراطي الأمثل الذي يمكن استنساخه في دول الربيع العربي، عوضاً عن نموذج الدولة الديمقراطية المطبق في الغرب، والتي قد تتنافى بعض قيمها مع ثقافة الشعوب المسلمة في الدول العربية. 

وتم استقبال أردوغان في مصر بحفاوة بالغة وقتها من قبل المجلس العسكري الذي كان يدير شئون البلاد في المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام مبارك، وتحدث أردوغان في حفل كبير في دار الأوبرا المصرية عن رؤيته لمستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط ودور تركيا في بناءها، قائلاً: "أصبحت رسالة الحرية التي تنتشر من ميدان التحرير نور أمل لجميع المظلومين في طرابلس ودمشق وصنعاء. يتعين على الحكومات أن تستمد شرعيتها من إرادة الشعب. هذا هو جوهر سياسة تركيا في المنطقة".

كما ظهر أردوغان في لقاءات تليفزيونية على محطات فضائية مصرية، تحدث في إحداها عن نصيحته للمصريين بضرورة "العمل على بناء دولة علمانية، ووضع دستور مصر بناء على المبادئ العلمانية" وقال إن تركيا تشكل نموذج مثالي للدولة الديمقراطية، فهو رئيس وزراء مسلم، لدولة علمانية، تحترم حقوق الأفراد في اعتناق الدين من عدمه، وعبر عن ثقته في قدرة مصر على بناء دولة حديثة بعد الثورة قائمة على ثلاثة محاور هي: الإدارة الجيدة للمواطنين، والاهتمام بالتعليم، والتنظيم الجيد لأموال الدولة للقضاء على الفساد.

وقد لاقى حديث أردوغان السياسي المعتدل وقتها استحسان كافة الأطراف الفاعلة في النخبة السياسية المصرية، ولاقى أيضاً استحسان بين كثير من المصريين العاديين الذين كانوا ينظرون بانبهار لتجربة أردوغان في تركيا، وقدرته على الخروج ببلاده من أزمة اقتصادية طاحنة ليجعلها قاب قوسين أو أدنى من الانضمام للاتحاد الأوروبي، ومحل إعجاب من كل جيرانها في أوروبا، في ذلك الوقت. فلم يكن المصريون، في أغلبهم، معجبون بتجربة أردوغان لأنه رئيس وزراء مسلم، ولكن بالأساس لأنه نجح في تحقيق رفاه اقتصادي وواقع سياسي أفضل لبلاده.  

إلا أن طرفاً واحداً فقط هو الذي استاء كثيراً من كلمات أردوغان المنمقة عن ضرورة إقامة الدولة الديمقراطية وإقامة الدستور على أسس علمانية، كان هذا الطرف هو جماعة الإخوان المسلمين، التي قامت بالسطو على مكتسبات ثورة يناير، وقدمت نفسها للعالم بأنها هي النسخة المصرية من حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي التركي، حيث سارعت الجماعة بعد ثورة يناير بتأسيس حزب سياسي اسمته "الحرية والعدالة"، لتجاري الخطاب العالمي الذي كان سائداً وقتها من حيث أن مصر يجب أن يحكمها نظام ديمقراطي إسلامي، والذي كان في نظر كثير من المصريين خطاب مختل ومتناقض تماماً مع طبيعة الشعب المصري، والذي أثبتت زيفه الأحداث التي تلت ذلك بعد وصول الإخوان للسلطة وفشلهم الذريع في إدارة شئون البلاد. 

ويبدو أن كلمات أردوغان عن الدولة الديمقراطية والدستور العلماني، أثناء زيارته لمصر بعد الثورة، قد أصاب جماعة الإخوان المسلمين في مقتل، ودمر لهم في لحظة مجهود سنوات طويلة من التدليس والمتاجرة باسم الله واللعب على وتر المشاعر الدينية لدى العامة، حتى أن قيادات الجماعة أدانوا تصريحات أردوغان، وردوا عليها بكلمات عدائية من نوعية "لا نريد نصائح من تركيا أو أردوغان"، بينما هم الذين استقبلوا أردوغان استقبال الفاتحين وحرصوا على ربط اسم حزبهم باسم حزبه، إمعاناً في تضليل الناس. 

ولعل هذه القصة هي أكبر دليل على زيف اعتقاد الذين كانوا يروجون لنظرية أن تجربة أردوغان وحزبه الإسلامي في تركيا قابلة للتطبيق في مصر، أو غيرها من دول الربيع العربي، فبرغم التقارب الجغرافي والتاريخي والتشابه الثقافي والديني بين تركيا ومصر، فإن لكل منهما خصوصيتها، والإسلاميين في تركيا ليسوا كالإسلاميين في مصر، سواء كانوا إخوان أو سلفيين، والقيم العلمانية الراسخة التي كانت تتمتع بها الدولة التركية في وقت إنشاء حزب العدالة والتنمية لم تكن موجودة في مصر المنهكة جداً في مرحلة ما بعد الثورة. وهذه القصة أيضاً هي أكبر دليل على حجم الكذب والتضليل الذي يعاني منه المصريون على يد جماعة الإخوان المسلمين منذ تاريخ ثورة يناير ٢٠١١ وحتى اليوم.