يصف الرئيس الأمريكي ترامب نظيره التركي رجب طيب أردوغان بـ "الصديق"، وتركيا هي حليف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام ١٩٥٢، والقوات المسلحة التركية هي ثاني أكبر قوة عسكرية دائمة في الناتو بعد الولايات المتحدة. لكن بالرغم من كل ذلك، لم تدخر إدارة ترامب جهداً في مواصلة الضغط ومحاولة السيطرة على القوة العسكرية المتنامية لتركيا، من خلال اللعب بورقة فرض العقوبات، بين الحين والآخر. لكن، على المدى الطويل، سوف تدرك الولايات المتحدة أن سياسية فرض العقوبات، خصوصاً العسكرية، سوف يضر المصالح الأمريكية أكثر مما قد يضر حليفتها تركيا أو خصمها التاريخي روسيا.
أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في ١٤ ديسمبر ٢٠٢٠، عن فرض عقوبات على وكالة "الرئاسة التركية للصناعات الدفاعية"، وهي وكالة مدنية تابعة للحكومة التركية مسؤولة عن إدارة صناعة الدفاع في تركيا وتوريد التكنولوجيا العسكرية، وقد عاقبتها الولايات المتحدة بموجب المادة ٢٣١ من قانون "مكافحة خصوم أمريكا من خلال العقوبات" بسبب قيام تركيا بـ "المشاركة عن علم في صفقة كبيرة مع شركة روسوبورون أكسبورت الروسية الحكومية" بشأن شراء نظام الدفاع الصاروخي إس-٤٠٠، وتشمل العقوبات حظر جميع تراخيص التصدير الأمريكية لصالح الوكالة المذكورة، وتجميد الأصول المملوكة للدكتور إسماعيل دمير، رئيس الوكالة، ومساعديه، وأيضاً فرض قيود على إصدار تأشيرات دخول أمريكية لهم.
هذه هي العقوبة الثانية التي تتلقاها تركيا من الولايات المتحدة بسبب شراء تركيا لنظام إس-٤٠٠ الروسي، حيث قامت إدارة ترامب، في ٢٠١٩، ولنفس السبب، بطرد تركيا رسمياً من برنامج تصنيع الطائرات المقاتلة إف-٣٥، على الرغم من حقيقة أن تركيا شريك قديم في البرنامج منذ بدايته عام ١٩٩٩. علاوة على ذلك، فإن العقوبات المفروضة حالياً، ليست أول عقوبات أمريكية تستهدف القوات المسلحة التركية. في أكتوبر ٢٠١٩، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية قرار بمعاقبة خلوصي أكار، بصفته المهنية كوزير دفاع تركيا، بسبب تورط الجيش التركي في "تأجيج العنف في سوريا، وتعريض المدنيين الأبرياء للخطر، وزعزعة استقرار المنطقة".
وقد برر البيان الرسمي لوزير الخارجية الأمريكي بشأن العقوبات الأخيرة على تركيا بأن شراء تركيا لنظام الدفاع الروسي إس-٤٠٠ "من شأنه أن يعرض أمن الأفراد والتكنولوجيا العسكرية الأمريكية للخطر، ويقدم أموالاً كبيرة لقطاع الدفاع الروسي، ويسمح بتدخل روسيا في القوات المسلحة التركية وصناعة الدفاع التركية". على الرغم من أن هذه المخاوف تبدو مشروعة، إلا أنها غير صحيحة وغير منطقية، ولا يمكن الاعتماد عليها في تفسير معاقبة تركيا مرتين على نفس الفعل، ولا يمكن الاعتماد عليها أيضاً في فهم الفائدة التي قد تعود على الولايات المتحدة بتعمدها إضعاف تركيا، حليفتها الاستراتيجية الأهم في الشرق الأوسط. وربما كان وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، دقيقاً للغاية عندما قال "إن عقوبات الولايات المتحدة لم تُفرض على تركيا فحسب، بل فُرضت بالتبعية على كل الحلفاء في الناتو، وسوف تؤثر على عملنا معاً كفريق".
من الناحية الواقعية، سوف تتسبب هذه العقوبات للولايات المتحدة في أكثر من خسارة، وعلى أكثر من مستوى. بادئها وأهمها هو خسارة فرصة الاستفادة من خبرة تركيا العملية ومعرفتها بالتكنولوجيا العسكرية الروسية مقارنة بالتكنولوجيا الأمريكية. في أكثر من مناسبة، أكد خلوصي أكار أن تركيا مستعدة لمناقشة أي مسائل فنية تتعلق بالتوافق بين نظام الدفاع الروسي إس-٤٠٠ والطائرات المقاتلة الأمريكية إف-١٦ وإف-٣٥، لكن عرضه وقع على آذان صماء في واشنطن. وبنفس المنطق، فإن قيام أمريكا بفرض عقوبات مرتبطة بالتسليح، يدفع الدولة المستهدفة بالعقوبة، وهي تركيا في هذه الحالة، إلى الاعتماد بشكل أكبر على روسيا والموردين الأوروبيين أو الآسيويين الآخرين، وهذا يعني خسارة أمريكا الكثير من الأموال والقوة لصالح منافسيها في مجال الصناعات العسكرية، وبالتالي تقوية المعسكر الداعم لخصومها العسكريين أو السياسيين.
لتوضيح هذه النقطة بشكل أكبر، خذ مصر كمثال حي في هذا الشأن. على مدى العقود الأربعة الماضية، اعتمدت مصر، بشكل شبه حصري، على الولايات المتحدة فيما يخص التسليح وبناء قدرات الجيش. بعد أشهر قليلة من الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين من السلطة، في عام ٢٠١٣، قررت الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس أوباما تجميد المساعدات العسكرية لمصر، ثم تم رفع تجميد المساعدات في عام ٢٠١٥، ثم تم تطبيقه مرة أخرى في عام ٢٠١٦، ثم تم رفعه مرة أخرى في عام ٢٠١٨. وبعد معاناة بسبب عدم الاستقرار في العلاقات العسكرية مع أمريكا، وجدت مصر نفسها مضطرة للعمل بجد على تنويع مصادر التسليح لتجنب عواقب إساءة استخدام أمريكا لورقة المساعدات العسكرية كلما أرادت وضع ضغوط سياسية على الدولة في مصر. واليوم، أصبحت مصر تستورد الأسلحة من روسيا والصين واليابان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، واحتلت مصر المرتبة الثالثة بين أكبر ٢٥ مستورد للأسلحة في العالم لعام ٢٠١٩، وفقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ولم تعد الولايات المتحدة بالنسبة لمصر إلا حليف واحد من ضمن قائمة طويلة من الحلفاء العسكريين الأخرين، في كل من أوروبا وأسيا.
بالمقارنة مع حالة مصر، فإن موقف تركيا أفضل بكثير وخياراتها أكثر تنوعاً فيما يتعلق بقدرتها على الصمود أمام العقوبات الأمريكية والتحايل على حالة عدم الاستقرار في العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، تعمل تركيا بجد لتحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع الصناعات الدفاعية. واليوم تحتل تركيا المرتبة الرابعة عشر بين أكبر المصدرين الدفاعيين حول العالم، ونمت الصناعة الدفاعية التركية إلى ١١ مليار دولا عام ٢٠٢٠، ووصلت صادرات تركيا من المنتجات الدفاعية إلى ٢,٧ مليار عام ٢٠١٩ لأول مرة في تاريخها، حيث ذهبت أعلى صادرات تركيا من الأسلحة والذخيرة إلى الولايات المتحدة بنسبة مساهمة ٢٩٪، تليها قطر وأذربيجان وعمان والفلبين والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وأوكرانيا وكندا. بالإضافة إلى ذلك، وقبل انتهاء عام ٢٠٢٠، وقعت خمس شركات دفاعية تركية عقوداً بقيمة ١٥٠ مليون دولار لتصدير معدات عسكرية إلى تونس. وفي المقابل، في عام ٢٠١٩ أيضاً، احتلت أمريكا قمة قائمة مصدري الأسلحة إلى تركيا بحجم تداول بلغ ٦٠٪، وتلتها فرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة. وفوق كل ذلك، فإن الجيش الأمريكي يدير قاعدتين عسكريتين على الأراضي التركية، تحت الإشراف التركي بصفتها الدولة المضيفة، في كل من إزمير وإنجرليك، وهما موقعين ذات أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لأوروبا وحلف الناتو والشرق الأوسط.
وسواء رضينا أم لم نرضى، فإن التأثير الجغرافي-السياسي لتركيا على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ينمو بوتيرة أسرع من المتوقع، ولن توقفه العقوبات الأمريكية، بل على العكس، فإن الولايات المتحدة بفرضها عقوبات على تركيا تتعلق بالصناعة الدفاعية أو تؤثر على قدرات الجيش، فإنها أولاً تجبر تركيا على الميل أكثر نحو الحليف الروسي، وبالتالي زيادة نفوذه في المنطقة، بينما تفقد أمريكا بمنتهى السذاجة نفوذها وقدرتها على استمرار تواجدها في الشرق الأوسط عبر حلفاء أقوياء مثل تركيا.
يعني باختصار، فإن الولايات المتحدة تعاقب نفسها بفرضها عقوبات عسكرية على تركيا، وليس العكس، وسياسة أمريكا في فرض العقوبات على الأنشطة ذات الصلة بالقوات المسلحة، في أي دولة كانت، يعني ببساطة دفع المزيد من الأموال والقوة الإقليمية بعيدًا عن الولايات المتحدة في اتجاه أكبر منافسيها روسيا والصين. ورغم ذلك، لا يُتوقع من الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس بايدن أن تحذف قرار فرض العقوبات على تركيا الذي أصدرته إدارة ترامب، بل ربما تحاول الإدارة الأمريكية الجديدة فرض المزيد من القيود لتحجيم القدرات العسكرية التركية، نظراً إلى كراهية بايدن لنظام أردوغان ورغبته المعلنة في الإطاحة به. لكن تبقى حقيقة أن وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، هو المحارب الأهم في هذه المعركة، وهو بالفعل لديه الكثير من الأوراق للتأثير على صانع القرار الأمريكي. الوضع برمته، الآن، يعتمد على مدى حكمة وبراعة خلوصي أكار في استخدام هذه الأوراق.