بعد أشهر طويلة من التوترات الدبلوماسية والعسكرية في شرق البحر المتوسط، يبدو أن الصراع بين تركيا واليونان حول الحدود البحرية قد وصل مرغماً إلى نقطة نظام وتعقل، حيث أعلنت وزارة الخارجية التركية، أمس الإثنين، استئناف المحادثات الاستكشافية بين تركيا واليونان، في مدينة إسطنبول، يوم ٢٥ يناير. يُذكر أنه في خضم التوترات العسكرية التي أثيرت في شرق المتوسط، الصيف الماضي، عقد الضباط البحريين في الجيشين التركي واليوناني بعض المحادثات التقنية، لكنها لم تؤد إلى أي حلول.
إن الجولة المقبلة من المحادثات هي الجولة الـ ٦١ التي يتم فيها مناقشة قضية الجرف القاري لتركيا في بحر إيجة وترسيم المنطقة الاقتصادية الحصرية بين تركيا واليونان في البحر المتوسط. بدأت هذه المحادثات في العام ٢٠٠٢، وكانت تعقد بالتناوب مرة في اليونان ومرة في تركيا، وتم عقد أخر هذه المحادثات في ٢٠١٦، بعدها رفضت اليونان المشاركة في المحادثات التي كان مخطط عقدها العام الماضي، في تركيا، احتجاجاً على إرسال تركيا، في شهر يوليو، سفينة الأبحاث السيزمية "عروج ريس" للتنقيب عن الغاز في المنطقة الحدودية المتنازع عليها بين تركيا واليونان، ورغم كل الاحتجاجات استمرت السفينة تبحر، لمدة ٨٢ يوم، في حراسة السفن الحربية والغواصات والطائرات المروحية التابعة للقوات البحرية التركية، مما حول المشهد في شرق المتوسط إلى ما يشبه الحرب.
من الواضح أن هدف تركيا من استخدام القوة العسكرية لإثارة المياه الهادئة في المتوسط، كان هو الضغط على اليونان قبل جلسة المحادثات الاستكشافية التي كان مخطط عقدها العام الماضي، لكن الوضع سرعان ما انقلب ضد تركيا، وبدلاً من تعزيز موقف تركيا في المفاوضات، أدى استخدام القوة العسكرية إلى مزيد من التعقيدات السياسية التي جعلت مهمة تركيا في استعادة الوطن الأزرق (مافي فاتان) أكثر صعوبة. مع الأسف، فإن منهج عسكرة السياسة الخارجية هو عادة سامة قديمة لدى الدولة التركية جعلتها تخسر في غالبية معاركها الدبلوماسية منذ عشرينيات القرن الماضي.
جذبت التوترات العسكرية التي اشعلتها تركيا في شرق المتوسط العديد من القوى الأجنبية إلى المنطقة، بما في ذلك فرنسا وروسيا والولايات المتحدة والإمارات وحتى الصين، التي جاءت للبحث عن مصالحها الاقتصادية في قلب المأساة. وقادت فرنسا حملة ضغط على الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لحثهم على فرض عقوبات على تركيا بدعوى مضايقتها لليونان. ولحسن حظ تركيا، لم يستمع الاتحاد الأوروبي أو منظمة الناتو، التي وصفها الرئيس الفرنسي ماكرون بـ "صاحبة الدماغ الميت"، إلى تهديدات ماكرون وخطوطه الحمراء، وأصرا على المضي قدماً في الحوار المباشر بين تركيا واليونان، باعتباره الحل الوحيد للأزمة.
في غضون ذلك، حدثت تحولات هائلة في التفاعلات الدبلوماسية بين دول شرق المتوسط، ضمن محاولاتهم للتعامل مع التهديد التركي على مصالحهم الاقتصادية وأمنهم القومي. في مطلع شهر أغسطس، أعلنت فرنسا وقبرص اليونانية أن "اتفاقية التعاون الدفاعي" الموقعة في أبريل ٢٠١٧، قد دخلت حيز التنفيذ، وهي الاتفاقية التي تضمن التعاون بين البلدين في "إدارة موارد الطاقة وإدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب والأمن البحري". وجاء تفعيل الاتفاقية، في هذا الوقت بالذات، كرد مباشر على الوجود العسكري التركي في البحر المتوسط.
بعدها بأيام معدودة، في ٦ أغسطس، وقّعت مصر واليونان اتفاقية ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، وفق ما هو منصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وبالتالي أصبحت الحدود البحرية المرسومة في اتفاقية مصر-اليونان تتقاطع مع الحدود المرسومة في الاتفاقية البحرية المعيبة والغير قانونية التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق الوطني المؤقتة في ليبيا، في نوفمبر ٢٠١٩، وبالتالي تلغيها. ثم في منتصف سبتمبر، تم إعلان تحويل منتدى غاز شرق المتوسط، الذي تأسس في ٢٠٢٠، إلى منظمة إقليمية، وكان المنتدى قد تأسس في يناير ٢٠٢٠ بواسطة كل من مصر واليونان وقبرص وإسرائيل، واستُبعدت تركيا منه عن قصد.
كرد فعل، قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، في نوفمبر، أثناء عرضه مقترح الميزانية العسكرية لعام ٢٠٢١، أمام لجنة الخطة والموازنة التابعة للمجلس الوطني الكبير: "لم يعد بإمكان تركيا تجاهل العلاقة بين اليونان ومصر". وفي الحقيقة لا يمكننا لومه على قلقه هذا، إذ أنه طوال أكثر من عقدين، في كل مرة كانت تتواصل فيها اليونان مع مصر للتوقيع على اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة، كانت دائماً ما ترفض مصر طلب اليونان احتراماً لعلاقاتها التاريخية والثقافية مع تركيا. لكن الخلاف السياسي الآخذ في الاتساع بين الدولتين المصرية والتركية، منذ عام ٢٠١٣، لم يترك لمصر خيار آخر سوى الوقوف إلى جانب اليونان وحلفائها الأوروبيين، هذه المرة.
ومع كل ما سبق ذكره، لا ننكر أن تركيا هي الدولة صاحبة أطول حدود داخل البحر المتوسط (١٨٧٠كم)، وهذا يعني أن لتركيا حق مشروع في الاستفادة من ثروات البحر المتوسط، وهو الحق الذي سبق وفقدته عند توقيع اتفاقية لوزان عام ١٩٢٢، ومن الظلم أن يستمر المجتمع الدولي في تجاهل نداءات تركيا المطالبة بعدم حبسها في حدود جغرافية ظالمة، بسبب اتفاقية منحازة تم توقيعها قبل قرن من الزمان، في ظل حالة ضبابية فرضتها الحرب العالمية آنذاك.
ربما يكون استئناف المحادثات الاستكشافية بين قبرص واليونان خطوة في اتجاه إعادة الحق ورفع الظلم، وإن كان من الصعب التفاؤل بأن تركيا سوف تنجح في إدارة أوراقها ضمن هذه المفاوضات، نظراً لما هو معروف عن تركيا من ضعف مزمن في أدواتها الدبلوماسية، فمن المفارقات العجيبة مثلاً، أن خلوصي أكار، القائد العسكري، أكثر مهارة في استخدام الخطاب والتكتيكات الدبلوماسية، من زميله مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية، ناهيك طبعاً عن التصريحات غير الحكيمة التي يطلقها الرئيس أردوغان بين الحين والآخر، وتأثيرها السلبي للغاية على الشؤون الخارجية لتركيا بشكل عام.
ولكي تنجح تركيا في استعادة حقوقها المشروعة في البحر المتوسط، يجب أن يحدث ثلاثة أمور. أولاً، يتعين على الرئيس أردوغان التوقف عن الإدلاء بتصريحات نارية استفزازية حول الصراع اليوناني التركي. ثانياً، يتعين على الدولة التركية تحسين مهاراتها الدبلوماسية واعتماد سياسة خارجية أكثر انفتاحاً تجاه جميع دول شرق المتوسط، وخاصة مصر التي تحتاج تركيا تحسين علاقاتها معها الآن أكثر من أي وقت مضى. ثالثاً، تحتاج تركيا بشكل ملح إلى التوقف عن استعراض عضلاتها العسكرية في كل مرة تفقد فيها صبرها على المساعي الدبلوماسية البطيئة بطبيعتها.