Sunday, January 10, 2021

عن شمشون أو ترامب الذي أسقط المعبد فوق رأسه

 


في الفترة القصيرة نسبيًا التي أمضيتها على هذه الأرض، شهدت أحداث جسام كان لها تأثير بدرجات متفاوتة، على الطريق الذي سارت فيه حياتي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: حرب الخليج، هجمات ١١ سبتمبر في نيويورك، سقوط صدام حسين والغزو الأمريكي للعراق، ثورات الربيع العربي، صعود وسقوط الإخوان المسلمين في مصر، ووباء كورونا.


لكن لم يخطر ببالي مطلقاً أن يأتي يوم أرى فيه الجماهير من عامة الناس يقتحمون مبنى الكونجرس الأمريكي، في قلب واشنطن، عاصمة الديمقراطية، بعد أن قام رئيس دولتهم بحشدهم للخروج في مسيرة غاضبة للاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية، لأنه يرفض تسليم السلطة سلمياً إلى خلفه المنتخب حديثاً. أنا واحدة من الملايين حول العالم الذين يحسدون الشعب الأمريكي على عيشه في ظل نظام ديمقراطي يسمح بالانتقال السلمي للسلطة وحرية اختيار حكماهم وممثليهم في المناصب العليا بالدولة، وهالني رؤية الرئيس ترامب، بأنانية شديدة، يشعل بركان الغضب الشعبي ضد الديمقراطية ويخاطر بالأمن القومي لبلاده بهذا الشكل.


في صباح يوم الأربعاء ٦ يناير، ألقى الرئيس الأمريكي ترامب كلمة مطولة حرض فيها أنصاره على تنظيم مسيرة باتجاه مبنى كابيتول هيل لمنع أعضاء الكونجرس من استكمال فرز الأصوات التي تؤكد خسارته في الانتخابات الرئاسية. وتحدث ترامب لأنصاره وكأنه قائد في معركة حربية قائلاً: "أنتم لا تتهاونون عندما تحدث سرقة. لقد سئمت بلادنا، ولن نصبر على ذلك بعد الآن... علينا أن نقاتل. قاتل مثل الجحيم، وإذا لم تقاتل مثل الجحيم، فستخسر بلدك."


بعد أقل من ساعة، كان الناس في كل أنحاء العالم يتابعون مشاهد اغتصاب الديمقراطية، جهاراً نهاراً، بواسطة مؤيدي ترامب الذين اقتحموا مقر الكونجرس وقاموا بممارسة أعمال عنف وتخريب وفوضى أودت بحياة أربعة أفراد. كان مشهداً مريعاً زلزل عرش أمريكا وأذهل العالم.


وفي اليوم التالي، بعد نزول قوات الحرس الوطني، وتقديم العديد من المساعدين الرئاسيين استقالتهم اعتراضاً على ما قام به ترامب، وبعد أن عقد الكونجرس جلسة أكد فيها فوز بايدن بالانتخابات وإعلانه الرئيس الجديد للبلاد، خرج ترامب على العالم بخطاب جديد، مساء يوم الخميس ٧ يناير، يدين فيه ممارسة العنف ويعلن قبوله بنتائج الانتخابات وموافقته على تسليم السلطة بشكل سلمي للرئيس المنتخب بايدن. لكن، مع الأسف، استسلام ترامب للحقيقة جاء متأخراً جداً، ربما أكثر من اللازم.


في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وبعد نجاح ترامب في القضاء على الجنرال الإيراني سيئ السمعة قاسم سليماني، كان العالم، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، ينظر إلى ترامب على أنه بطل. وعلى الرغم من جائحة كورونا، شهد العام ٢٠٢٠، العام الأخير في إدارة ترامب، انتصارات دبلوماسية غير مسبوقة لإدارة ترامب في الشرق الأوسط، ومن أبرزها اتفاقيات إبراهيم بين إسرائيل وبعض الدول العربية.


لكن الناس، اليوم، في مصر والعديد من البلدان الأخرى في المنطقة العربية، يشعرون بالشماتة تجاه الأحداث المؤسفة التي وقعت في العاصمة الأمريكية، على يد ترامب. إذ ذكّرهم اقتحام مبنى الكونجرس ببعض المشاهد الشهيرة في ثورات الربيع العربي لجماهير يقتحمون المباني الحكومية والبرلمان، في عام ٢٠١١. وتلك الشماتة، التي أرفضها عن نفسي، تنبثق من نظرية مؤامرة، يتبناها الكثيرون في دول الربيع العربي، تزعم أن إدارة أوباما كانت هي العقل المدبر للثورات بالمنطقة، ومن ثم فإن الولايات المتحدة بالنسبة لهم هي المسؤول عن سقوط دولهم والعواقب الوخيمة التي تلت ذلك مثل الحروب الأهلية وانتشار التنظيمات الإرهابية. مع أنه في حقيقة الأمر لم تكن أمريكا تعلم أصلاً أن ثورة ستقوم في أي من البلدان التي خاضت تجربة الربيع العربي المريرة، ولا يتطلب الأمر سوى نظرة سريعة على ما تم تسريبه من بريد هيلاري كلينتون، أو كتاب "أرض الميعاد" الذي نشره الرئيس السابق أوباما، مؤخراً، للتأكد من ذلك.


عندما حاول ترامب إشعال النار في بناء الديمقراطية الأمريكية، كان فعلياً يرتكب جريمة انتحار سياسي، والآن لم يعد بإمكانه إصلاحها أو إعادة نفسه للحياة من جديد. مع الأسف، سيهمل التاريخ كل الإنجازات الحسنة التي حققتها إدارة ترامب، خاصة في الشرق الأوسط، ولن يُذكر ترامب بين القادم من الأجيال، إلا باعتباره الرئيس الأمريكي الذي قرر، قبل مغادرته منصبه، أن يحطّم أعمدة الديمقراطية ويهدم أمريكا على من فيها، تماماً مثلما فعل شمشون عندما قام بهدم أعمدة المعبد فوق رأس الجميع، ورأسه هو شخصياً.