تربيت على يد رجل من خير أجناد الأرض، أبي رحمه الله كان ضابطاً بالقوات المسلحة، كنت استمتع كثيراً وأنا أساعده نهاية كل أسبوع في توضيب زيه الرسمي وتجهيزه للأسبوع الجديد، كنت أنتظر القصص التي يعود بها إلينا من مهامه التي كانت تجبره أن يغيب عنا لأسابيع طويلة للخدمة في صحراء ما أو محافظة نائية لم نسمع عنها من قبل، ورغم كل ما كان يلاقيه من تعب كان سعيداً وفخوراً بما يفعله، أذكر جيداً ذلك اليوم الذي عاد فيه أبي من السلوم بسلحفاة وجدها شاردة في الصحراء بجوار كتيبته فأشفق عليها، ومن سخرية القدر أن هذه السلحفاة قد عاشت في بيتنا أطول مما عاش هو.
مات أبي وكبرت أنا، فاخترت دراسة العلاقات المدنية العسكرية لعلي أجد فيها ما يقربني منه، قبلوني في واحدة من أكبر الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، وقدمت رسالة الماجستير حول علاقة الجيش والشعب في مصر في أوقات الأزمات، وأدرس حالياً لدرجة الدكتوراة في بحث كيف نجت مصر وتونس من مقصلة الثورة بسبب وحدة الجيش والشعب، بينما انهارت سوريا وليبيا بسبب إنفصام الجيش عن الشعب.
وطوال الخمس سنوات الماضية، كان دائماً ما يواجهني المتخصصون وغير المتخصصين بنفس السؤال: "ما السر الذي جعل الجيش المصري ينحاز للمصريين في ثورة يناير؟ ولماذا لا يرى المصريون في استقلالية الجيش المادية والسلطوية وتدخله في شئون الحياة العامة إنتهاك للديمقراطية والحرية التي ثاروا من أجلها في ثورة يناير؟"
بُنيَت مثل هذه الأستفسارات والافتراضات على نظرية شائعة جداً في الغرب تقول بأنه كلما زادت درجة الديمقراطية في أي دولة كلما انحصر دور الجيش في الحياة العامة، تلك النظرية التي كشف زيفها الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما في خطابه الأخير، قبل بضعة أيام فقط، والذي قال فيه بمنتهى الوضوح أن قوة أمريكا من قوة جيشها الذي ينوب عنها في لعب أدوار دبلوماسية وسياسية مع الدول الأخرى.
كانت ولا تزال إجابتي على هذه الأسئلة دائماً بعبارة واحدة بليغة أؤمن بها تماماً وهي "الجيش والشعب يد واحدة". لم يكن ذلك مجرد هتاف أعلن شهادة ميلاد جديدة لمصر يوم ظننا أن النهاية قد حانت، ليلة 28 يناير 2011، بل كان إعلان لعقيدة يؤمن بها المصريون جيشاً وشعباً. "الجيش والشعب يد واحدة" هي حقيقة واقعة يشهد بها التاريخ، وليست وليدة ثورة يناير أو ما بعدها فقط، الجيش والشعب خيطان في نفس النسيج الوطني الواحد، والسبب هو أن كل أسرة مصرية بها ضابط أو مجند، السبب هو التجنيد الإلزامي الذي تهكمت عليه الجزيرة في فيلم ساذج يشهد للعسكرية المصرية بتفردها وقوتها وليس العكس.
كان بديهياً أن تخرج علينا الجزيرة بهذا الفيلم الساذج كحلقة من حلقات هجومها المستمر على جيش مصر خصوصاً بعد أن صرح الرئيس السيسي قبل عرض الفيلم بيومين فقط أنه لا يحترم ولا يدعم إلا الجيوش الوطنية، في إشارة إلى موقف مصر مما يجري في سوريا على عكس هوى حكام قطر، وكان بديهياً أن تهاجم قطر التجنيد الإجباري، لأنها أصلاً ليس لديها شباب لتجندهم، قطر تشتري الجنود من الدول الفقيرة في أسيا وأفريقيا.
لكن ما لم يكن متوقعاً أبداً هو تلك الملحمة التي قادها الشعب المصري على السوشيال ميديا في حب وتقديس جيش مصر، ولم يفعل ذلك الكبار الذين عاصروا الحروب التي خاضتها مصر في منتصف القرن الماضي، بل من قاد هذه الحملة هم شباب لطالما حاول المغرضون أن يفرقوا بينهم وبين جيشهم تحت قناع الديمقراطية، والديمقراطية منهم براء.
انحاز الشعب للجيش تماماً مثلما سبق وانحاز الجيش للشعب ليثبت للعالم صحة نظرية أن الجيش والشعب ليس فقط يد واحدة، بل على قلب رجل واحد. اللهم أدمها علينا نعمة.