Tuesday, January 08, 2008

حياتي قبل و بعد أحداث فيلم حين ميسرة



حاول أبي – رحمه الله – كثيرا عندما لمس حبي الشديد للسينما في الصغر أن يقصيني عن هذا الطريق مرات و مرات، و عندما كبرت و سألته عن السبب، قال أنه لا يريدني أن أقع في فخ عشق السينما الذي وقع فيه أحد أصدقائه، فكان لا يتعلم إلا منها و لا تتغير أرائه إلا بناءا على ما يشاهده فيها.. وصل الأمر إلى حد الحالة المزاجية، فأصبح الفيلم الذي يشاهده صديق أبي هو الذي يحدد حالته المزاجية طيلة أسبوع أو لحين يرى فيلم آخر، و كان لذلك طبعا تأثير ضخم على كل كبيرة و صغيرة في حياته.


بالطبع كنت أستهين كثيرا بهذا الكلام، كنت أظن – خطأ – أن الفيلم في النهاية فيلم، ساعة أو ساعتين من الاستمتاع بمتابعة أحداث معينة... لا أكثر و لا أقل. فهو ليس كتاب مثلا أو فكرة عبقرية تستطيع قلب ذلك الكيان المعقد المسمى إنسان. لكني أكتشفت منذ يومين أن الأمر لم يكن كذلك و الفيلم "الحلو" قادر فعلا على تغيير شخصية الإنسان، بل و تغيير وجهته و مبادئه في الحياة، و بناءا علي كل تلك التغيرات، فإن الفيلم الجيد قادر فعلا على تغيير مستقبل الإنسان.


لقد فقدت شهيتي "المفتوحة بشراهة" للحب بسبب فيلم "حين ميسرة" و أحمل المخرج المُعجز خالد يوسف المسئولية كاملة عن ما سوف يترتب على ذلك في كل القادم من حياتي، فأي حب ممكن أن يعاش في عالم كهذا؟! المشهد الأخير في الفيلم كان أقسى المشاهد على الإطلاق على الرغم من أنه لم يحمل أي صورة من صور العنف التي أمتلأ بها الفيلم... يكاد يكون مشهد صامت، لكنه بليغ بلاغة شعر المتنبي. الجميع داخل نفس القطار: الأب الضائع الهارب من ماضي بشع إلى مستقبل أكثر بشاعة في عربة الدرجة الثانية، و الأم الجميلة التي لم تجد وسيلة للبقاء إلا تقديم جسدها قربان رخيص للحياة التي لم تسمح لها إلا ببعض السعادة و الكثير الكثير من العذاب في عربة الدرجة الأولى، و إبنهما المشرد في حواري الدنيا يحمل طفلا رضيعا و زوجة فوق سطح القطار! كل منهم يبحث عن الآخر، لكنهم أبدا لن يلتقوا! و سيبقى كل في عذاباته وحده إلى حين وصول القطار .. أو .. إلى آخر العمر.


الفيلم صدمني بشكل مبالغ فيه، و صدمني أكثر حين ظهر صوت المخرج في آخر الفيلم معتذرا للجمهور أنه لم يتمكن من تقديم الحقيقة كاملة على الشاشة لأنها لن تحتمل.. اعتقد أنه كان يقصد أننا نحن الجمهور من سيفقد القدرة على احتمال ما هو أشد مرارة و قسوة مما رأيناه... ناس على هامش الهامش، يعيشون كالموتى، حياتهم من أولها لآخرها عرض متصل من الألام. يأكلون من الزبالة و يشربون من المجاري، و ينامون في أعشاش. كانت الحارة التي يسكوننها مفرخة مفزعة لكل أشكال الجريمة... حالة مؤلمة من الكرامة المهدورة و اللإنسانية. ناس ممكن تقتل بعضها من أجل خمسة جنيهات! ناس قتلت الحاجة كرامتهم و جعلت منهم أشياء تشبه البشر.


كم كنت أتمنى أن يأتي صوت خالد يوسف في نهاية الفيلم مؤكدا أن ما رأيته على الشاشة هو في بلد غير بلادي، لكن المصيبة أن تلك ليست الحقيقة و أن ما يسمونها عشوائيات و أحب أنا أن أسميها "مقابر الأحياء" موجودة في جميع أنحاء مصر، قرأت كثيرا عنها، و مررت كثيرا عليها، و تعاملت في أحيان كثيرة أيضا مع من يسكنون فيها و رأيتهم كثيرا جدا يبتسمون! كيف استطاعوا تجاوز ذلك الألم و رسم الابتسامة على وجوههم؟ لا أعرف... أعتقد أني لو كنت مكان واحد فيهم لكنت أنتحرت منذ وعيت على الدنيا.


خرجت بعد الفيلم، و قد فقدت قدرتي الكاملة على الحب! و هذا أمر – لو تعلمون – عظيم، لأن فقداني لتلك الطاقة الجنونية بداخلي يعتبر موتا روحيا مؤكدا.. على الرغم من أن آخرون و على رأسهم أمي يعتبرونه حالة من النضج تأخرت كثيرا! كنت في الماضي – أي قبل فيلم حين ميسرة – أتألم و أبكي فقط إذا غاب الحب من حياتي، فقط لهذا السبب و الله العظيم، لم يكن هناك شيء أشد قسوة أبدا بالنسبة لي.. لكن بعد أن شاهدت هذا الفيلم الذي فتح عيني على حقائق أكثر إيلاما، عرفت أني كنت في منتهى منتهى منتهى التفاهة، أنتابتني حالة تشبه "اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته" و قد استسلمت لتلك الحالة لدرجة أني تشبعت بها تشبعا كاملا، سيترتب عليها تغيير كامل في داخلي.


و لعلني من اليوم سأعتبر فيلم "حين ميسرة" هو الحد الفاصل في حياتي، و من الآن فصاعدا سأصنف حياتي قبل و بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر .... عفوا! أقصد : قبل و بعد أحداث فيلم حين ميسرة.