بعد عام من الحديث المتفائل عن التنمية الاجتماعية والتوافق السياسي والتوحد العسكري، عادت ليبيا إلى الغرق في وحل الخوف من المستقبل، حيث قررت النخبة السياسية على وجهتي الصراع، تنحية خلافاتهم والتعاون للمرة الأولى، ليس بغرض إنهاء البؤس الذي يعيشه الشعب الليبي منذ سنوات، ولكن بهدف تفكيك حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، وبالتالي تعطيل عملية الحل السياسي بأكملها، حتى يتمكنوا من الاحتفاظ بما لديهم من سلطات سياسية لأطول فترة ممكنة.
في صباح العاشر من فبراير، بعد ساعات قليلة من نجاة رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، من محاولة اغتيال، أعلن البرلمان الليبي عن تشكيل حكومة مؤقتة جديدة، برئاسة فتحي باشاغا، الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني المؤقتة السابقة. لكن عبد الحميد الدبيبة أصر على التمسك بمنصبه حتى استكمال عملية الحل السياسي من خلال إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يونيو. كما هاجم الدبيبة البرلمان لاتخاذه قرار بحل حكومة الوحدة الوطنية، دون استفتاء عام أو حتى التشاور مع بعثة الأمم المتحدة ومنتدى الحوار السياسي الليبي، اللذين عينا هذه الحكومة في الأصل.
في الحقيقة، لقد كان قرار البرلمان مفاجئًا لجميع الأطراف المعنية، محليًا وإقليميًا ودوليًا، ولم يوجد سبب حقيقي أو ضاغط يستدعي اتخاذه، بينما لم تنته بعد الفترة المقررة لعمل حكومة الوحدة الوطنية، وهي ثمانية عشر شهرًا منذ بدء عملها في مارس الماضي، كما أن البلاد تتجهز بالفعل لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في يونيو، امتثالًا لخارطة الطريق وعملية الحل السياسي التي أقرها ٧٥ عضوًا في منتدى الحوار السياسي، تحت إشراف الأمم المتحدة، في أواخر عام ٢٠٢٠.
برر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح القرار بأن حمّل الدبيبة، حصرياً، ذنب فشل البلاد في إجراء الانتخابات العامة في ديسمبر، كما كان مقرر لها. ذلك على الرغم من مشاركة جميع الأطراف الفاعلة داخل ليبيا، بما في ذلك البرلمان أيضاً، في اتخاذ قرار تأجيل الانتخابات بسبب ما أطلقوا عليه وقتها "الظروف القاهرة". بل أكثر من ذلك، زعم عقيلة صالح أن الدبيبة فقد شرعيته عندما قرر الترشح للرئاسة في الانتخابات المؤجلة. لكن، في الواقع، لم يكن الدبيبة هو المسؤول السياسي الوحيد الذي قرر خوض الانتخابات بينما لا يزال في منصبه، بل إن فتحي باشاغا، وعقيلة صالح نفسه، قد رشحوا أنفسهم أيضاً للتنافس على المقعد الرئاسي في نفس الانتخابات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحيزات عقيلة صالح وعدد كبير من أعضاء البرلمان، الذي يعمل من طبرق، يجب أن تجعلنا نتشكك في إخلاص نواياهم بشأن هذا القرار. عقيلة صالح من أشد الداعمين للواء خليفة حفتر، الذي يقود قوات الجيش الوطني الليبي ويسيطر على المناطق الشرقية من ليبيا. لطالما استخدم صالح سلطته لدفع البرلمان الذي يترأسه لاتخاذ قرارات تعزز مواقف حفتر المناهضة والمعرقلة لعمل الحكومات الشرعية المتتابعة في طرابلس. حتى أنه أيد محاولات حفتر للإغارة على طرابلس بالقوة، في عام ٢٠١٩، والتي فشلت بسبب تدخل الجيش التركي إلى جانب حكومة الوفاق الوطني، آنذاك، لحماية طرابلس.
عندما تولت حكومة الوحدة الوطنية السلطة، عبر تصويت منتدى الحوار السياسي، في مارس ٢٠٢١، كان حفتر وصالح وغيرهم من الوجوه الشهيرة في النخبة السياسية أول المباركين؛ خاصةً حفتر الذي كان لديه آمال كبيرة في أن يتم تعيينه وزيراً للدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، ثم كرئيس للدولة فيما بعد. لكن، بقدر من الحكمة، قرر الدبيبة، رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية، إبقاء مقعد وزير الدفاع فارغًا إلى حين تتوصل اللجنة العسكرية (٥+٥) إلى اتفاق حول توحيد القوات المسلحة في طرابلس وبنغازي تحت علم وطني واحد، وهو ما لم يحدث حتى هذه اللحظة بسبب عدم تعاون حفتر.
من ثم، بدأ حفتر وحليفه عقيلة صالح، من باب الثأر لما تعرضوا له من خيبة أمل على يد الدبيبة، في ممارسة الضغوط الاقتصادية والأمنية على حكومة الوحدة الوطنية لجعلها تبدو كحكومة فاشلة في نظر الشعب الليبي والمجتمع الدولي. على سبيل المثال، تعمد البرلمان تعطيل التصديق على ميزانية الحكومة المستحق صرفها منذ يوليو الماضي، وشن حفتر أكثر من عمل عسكري فردي في الجنوب، بما في ذلك إغلاق الحدود الليبية مع الجزائر، دون تنسيق مع القوات المسلحة في طرابلس، وضد إرادة الحكومة الشرعية والمجلس الرئاسي. على الرغم من ذلك، استطاع الدبيبة اجتياز كل المصاعب التي واجهها على يد خصومه، وأوصل البلاد إلى حالة من الاستقرار النسبي سمحت بالبدء في تنظيم إجراء الانتخابات العامة في موعدها المقرر في ديسمبر، لولا أنه، قبل ثلاثة أيام فقط من موعد التصويت، أعلنت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عن عدم قدرتها على المضي قدمًا في إجراء الانتخابات بسبب استمرار "الظروف القاهرة"، دون أن تحدد بالضبط ما هي هذه الظروف.
في صباح نفس اليوم الذي تم فيه اتخاذ قرار تأجيل الانتخابات، قام فتحي باشاغا وأحمد معيتيق، وهما مسؤولان سابقان في حكومة الوفاق الوطني، بزيارة بنغازي وعقدا لقاءات مصالحة مع خليفة حفتر وعقيلة صالح. كان من المدهش أن نراهم معًا، في ذلك اليوم بالذات، لأن العداء بين مسؤولي حكومة الوفاق الوطني والسياسيين في المناطق الشرقية كان قوياً جداً وطويلاً جداً؛ إذ لم يقتصر الأمر على التنافس السياسي فحسب، بل وصل أيضًا إلى حرب أهلية عنيفة. على ما يبدو، في هذا الاجتماع بالذات، تم عقد صفقة بين باشاغا وحفتر للإطاحة بالدبيبة والاستيلاء على طرابلس من خلال لعبة سياسية يتولى البرلمان تنفيذها.
هذا بالضبط ما تجلى بعد شهر واحد من هذا اللقاء في صورة قرار مفاجئ اتخذه برلمان عقيلة صالح بحل حكومة الوحدة الوطنية ووضع باشاغا في مقعد رئيس الوزراء. جدير بالذكر أن كل من باشاغا وحفتر وصالح لهم مصلحة شخصية مباشرة في إخراج الدبيبة من المشهد السياسي، حيث أن شعبيته بين الجمهور قد تزايدت في الفترة الأخيرة بشكل يهدد سلطتهم ويقلص فرصهم في الفوز في أي انتخابات رئاسية نزيهة في مواجهته. لقد كانت احتمالية فوز الدبيبة في الانتخابات الرئاسية المؤجلة عالية جدًا، مقارنة بحفتر أو باشاغا أو صالح أو أي أسم آخر من النخبة السياسية، سواء في الشرق أو الغرب. في مقابلة على إحدى القنوات التليفزيونية المحلية، بعد يومين من القرار البرلماني المعيب، قال الدبيبة إن عقيلة صالح بعث إليه برسالة غير مباشرة مفادها أنه "إذا أراد البقاء في السلطة لمدة عام آخر أو نحو ذلك، فعليه الانسحاب من الترشح في الانتخابات الرئاسية"، لكنه رفض هذه المساومة.
كل هذه الحقائق يجب أن تضع شرعية قرارات البرلمان موضع تساؤل وتشكيك. في الحقيقة، إن شرعية البرلمان نفسه كممثل لإرادة الشعب الليبي هي أيضًا موضع تساؤل وتشكيك. هذا برلمان منتهي الصلاحية، وكان ينبغي إعادة انتخابه منذ ثماني سنوات، لكن لم يحدث ذلك بسبب ظروف الحرب الأهلية. بعبارة أخرى، برلمان عقيلة صالح في طبرق لا يمثل الشعب الليبي، وبالتالي فهو ليس هيئة ذو شرعية تفوق شرعية كل الأطراف الأخرى، لا سيما الحكومة المؤقتة، وينبغي أن تدرك الأمم المتحدة والأطراف المعنية في المجتمع الدولي هذه الحقيقة والتعامل مع البرلمان على هذا الأساس، في إطار محاولاتهم لحل الأزمة الليبية.
مع الأسف، فإن اهتمام المجتمع الدولي تجاه ليبيا قد بدء يتضاءل بشكل ملحوظ، ربما بسبب التركيز الكبير على التوترات المتصاعدة على الحدود بين روسيا وأوكرانيا. كما أن التقلبات الإقليمية الأخيرة والتغيرات الحادثة في تحالفات القوى في الشرق الأوسط تزيد من تعقيد الأزمة السياسية في ليبيا. لكن ربما الجانب المشرق في كل ذلك، هو أن تركيا ومصر، وهما الفاعلين الإقليميين أصحاب الأثر المباشر على ما يجري داخل ليبيا، يتبنيان لأول مرة موقفًا متماثلاً بشأن الأزمة الحالية؛ فقد عبر كل من الرئيسين المصري والتركي، في تصريحات منفصلة، عن دعمهما لاستمرار عملية الحل السياسي وإجراء الانتخابات، بدلاً من تشجيع أي منهما قرار البرلمان بتولي حكومة مؤقتة جديدة. بالتوازي مع ذلك، توقفت أبو ظبي عن دعم خليفة حفتر، في إطار جهودها الأخيرة لاسترضاء تركيا وإصلاح العلاقات معها.
في النهاية، من الصعب التكهن بما يمكن أن يحدث مع ليبيا في المرحلة المقبلة، لا سيما في ظل اتحاد طرفي الصراع القديم بهذا الشكل العجيب ضد الحكومة الشرعية وعملية الحل السياسي التي تدعمها الأمم المتحدة، في وقت ينشغل فيه الفاعلون الإقليميون والدوليون الداعمون للأطراف المتنازعة داخل ليبيا بقضايا أخرى أكثر إلحاحاً. لكن، في كل الأحوال، لنكن على الأقل متفائلين بأن الاشتباك السياسي الحالي قد يعطي إجابة حاسمة لمسألة الشرعية السياسية التي ظلت تنهك ليبيا منذ سقوط القذافي.