لا شك في أننا نشهد لحظة تاريخية في تطور العلاقة بين العرب واليهود، في مختلف النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية، وحتى على مستوى الروابط الاجتماعية بين الأفراد والشعوب داخل منطقة الشرق الأوسط. إلا أن حالة النشوة التي خلفتها طاقة التقارب الإنساني التي حلت محل عقود من الكراهية القائمة على دوافع سياسية، لا ينبغي أن تمنعنا من التعمق في الأسباب الحقيقية وراء هذا التغيير الهائل في موقف العرب من اليهود، سواء على مستوى النخبة أو حتى على مستوى الجمهور، بهدف ضمان البناء على تلك الحالة الإيجابية وتوسعة نطاقها جغرافياً وضمان استمراريتها زمنياً.
في ٢٠ يناير، شاركت مصر بحماس واضح في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أدت إلى تبني قرار يدين ممارسات إنكار وتشويه الهولوكوست (المحرقة)، بما في ذلك على المنصات الاجتماعية أو على شبكة الإنترنت بشكل عام. نيابة عن المجموعة العربية، نقل السفير المصري الإجماع العربي على القرار، الذي يدين الهولوكوست كجريمة إبادة جماعية، مشيراً إلى أن "ذكرى مثل هذا الثقب الأسود في التاريخ يجب أن تبقى حية في الوعي العالمي حتى لا تتكرر أبدا".
بعدها بأيام قليلة، أقيمت عدة فعاليات رسمية للاحتفاء بـ "اليوم الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" في أكثر العواصم العربية حيوية – القاهرة وأبو ظبي. في أبو ظبي، شارك وزراء ومسؤولون بالدولة في تنظيم الحدث وتقديم كلمات فيه. في القاهرة، تم تنظيم الحدث من قبل السفارة الأمريكية ومتحف ذكرى الهولوكوست في واشنطن، في أحد أكبر الفنادق في قلب القاهرة، على ضفاف نهر النيل.
بل أكثر من ذلك، في الدورة الأخيرة من منتدى الشباب العالمي، في منتصف يناير، تمت دعوة عدد من الشبان الإسرائيليين للمشاركة والحضور. في أوائل عام ٢٠٢١، وافقت وزارة التربية والتعليم المصرية على منهج مدرسي جديد لطلاب المرحلة الابتدائية والإعدادية، يستكشف النصوص الدينية والقيم المشتركة للأديان الإبراهيمية الثلاثة – اليهودية والمسيحية والإسلام. يعتبر هذا القرار نقلة كبيرة في طريقة تعامل مصر مع الثقافة اليهودية، حيث أنه لم يتم تدريس النصوص الدينية اليهودية في المدارس المصرية منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي مارس تمييزًا عرقيًا واضحًا ضد يهود مصر، بسبب حربه مع إسرائيل آنذاك، حتى أن فكرة القومية العربية التي تبناها عبد الناصر كانت تقوم على فكرة معاداة كل ما هو يهودي.
وفوق كل ذلك، خلال العامين الماضيين، قامت الحكومة المصرية بتجديد أماكن العبادة التراثية؛ اليهودية والمسيحية والإسلامية، بما في ذلك تجديد معبد "إلياهو هانفي" في الإسكندرية، والذي تأسس في القرن الرابع عشر. قارن ذلك بما كان يحدث في العقود السابقة من استهداف التنظيمات الإرهابية بشكل مستمر للمعابد اليهودية، تحت تأثير الخطاب الديني والسياسي المتطرف، الذي كان شائعاً.
إن مثل هذه التغيرات الحادة في المواقف الرسمية وغير الرسمية تجاه اليهود، وكذلك العوامل المؤدية لها والمترتبة عليها، هي أمور جديدة للغاية على منطقة الشرق الأوسط. في الماضي القريب، كان مجرد التفكير في إقامة فاعلية لإحياء ذكرى الهولوكوست في القاهرة حلم أقرب للخيال، بسبب التحدي الهائل الذي تفرضه ثقافة معاداة السامية وإنكار الهولوكوست المنتشرة على نطاق واسع في منطقتنا.
على الرغم من معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، التي مضى عليها أكثر من أربعين عامًا، والجهود الكبيرة التي تبذلها القيادات السياسية الحالية في كلا البلدين لتأسيس علاقات جوار متزنة ومثمرة، لا يزال هناك بعض وسائل الإعلام والسياسيين، وخاصة من التيار الناصري/اليساري المتهالك، يتفاخرون بإعلان كراهيتهم لإسرائيل بشكل خاص، وكل يهود الأرض بشكل عام. غني عن الذكر أيضاً، الانتشار الواسع للخطاب الديني السياسي الذي يصف اليهود كأعداء وجوديين للمسلمين، ويحل محاربتهم على أساس الاختلاف الديني. لكن برغم ذلك، هناك جانب مشرق يتمثل في حقيقة أن التغيير الحادث على مستوى النخبة والقيادة السياسية قد بدأ يترك أثره بشكل واضح على المواقف العوام تجاه إسرائيل، ولكن بدرجات متفاوتة بين الشعوب العربية، نظراً للتطورات الجيوسياسية والجيو-اقتصادية الإقليمية وعواقبها على كل دولة.
أظهر استطلاع أجراه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في نوفمبر ٢٠٢٠، أن ٢٥٪ من الجمهور المصري يؤيد تطبيع العلاقات مع إسرائيل. في ذلك الوقت، كان الحبر الذي وقعت به الإمارات وإسرائيل على اتفاق إبراهيم ما زال رطباً، ومن ثم كان سهلاً على المصريين الاعتراف بأنهم مستعدين لأن يكونوا أكثر نشاطاً في تحسين العلاقات مع إسرائيل، خصوصاً أن مصر كانت أول دولة عربية توقع معاهدة سلام مع إسرائيل قبل أربعة عقود من ظهور اتفاقيات إبراهيم.
لكن رغم ذلك، يبدو أن الجولة الأخيرة من الحرب في غزة، والتي اندلعت في مايو ٢٠٢١، قد أدت إلى تراجع موقف المصريين الداعم لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لتتوقف عند ١٢٪ في استطلاع مماثل أُجراه نفس المعهد في نوفمبر ٢٠٢١. لكن المفارقة هي أن هذه الحرب قد عززت التعاون والتفاهم على مستوى القيادات السياسية والاستخباراتية بين مصر وإسرائيل، بفضل الدور المحوري الذي قامت به مصر في السيطرة السريعة على المشهد والتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار. في غضون ذلك، أشاد نحو ربع المصريين، في استطلاع ٢٠٢١ المشار إليه، بالتعاون الاقتصادي بين مصر وإسرائيل، خاصة بعد رحيل نتنياهو عن منصب رئيس الوزراء.
إن أحد العوامل الرئيسية التي تفسر زيادة الإقبال على مغازلة اليهود وتقبل إسرائيل من جانب العرب، هو حقيقة أن معظم دول الشرق الأوسط تتفق على أن إيران وميليشياتها ووكلائها المنتشرين على نطاق واسع، هم أكبر تهديد للأمن القومي والإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الواقع الجيو-سياسي الجديد للمنطقة، والذي بدء يتبلور منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، قبل عقد من الزمن، ووصل إلى ذروته مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الصيف الماضي، قد نحى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى رف بعيد، بينما أعطت دول المنطقة أهمية أكبر للتعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل، كضرورة للحفاظ على منطقة الشرق الأوسط في حالة توازن في مواجهة التحديات التي فرضها هذا الواقع الجديد.
خلاصة القول، لم يعد الاتجاه إلى السلام العربي مع إسرائيل حلم بعيد المنال، بل أصبح هو الخيار الوحيد المتاح للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين، في مواجهة التهديدات المتصاعدة، خصوصاً على البوابات الشرقية للمنطقة، سواء على يد ميليشيات إيران المنتشرة في منطقة الشام والعراق، أو صعود متطرفي طالبان إلى سدة الحكم في أفغانستان، أو إرهاب تنظيمات داعش والقاعدة. ولضمان استمرار التوجه نحو السلام، يجب بذل جهد أكبر في تعميق العلاقات إلى ما هو أبعد من العلاقات السياسية أو الأمنية بين دول المنطقة، إذ لا يزال الوصول إلى جوهر العلاقات الشعبية بين العرب واليهود يمثل تحديًا كبيرًا، على الرغم من اتفاقيات إبراهيم وسلسلة الأنشطة الحكومية المتعددة التي تعكس القبول الرسمي لإسرائيل. في هذا الإطار، يكون القبول الشعبي وتغيير الثقافة هو ما يهم حقًا.