رغم تسارع وتيرة التغيرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، منذ بداية العام، إلا أن عملية المصالحة بين مصر وتركيا، بوصفهما اثنتين من أهم الدول الفاعلة سياسياً واقتصادياً وأمنياً في المنطقة، ما زالت بطيئة ومتعسرة بشكل غير مفهوم، لا سيما إذا تم مقارنتها بالتطور في العلاقات المصرية القطرية التي تم إصلاحها والارتقاء بها لمرحلة متقدمة جداً في غضون أشهر معدودة، أو العلاقة بين تركيا والإمارات التي تطورت بشكل مذهل من قمة العداء إلى قمة الصفاء في غضون ثلاثة أشهر فقط. أما العلاقات المصرية التركية ما زالت عالقة في جولات تفاوض ومحادثات على مستوى تمثيل دبلوماسي متواضع لا يرقى لأهمية العلاقة بين بلدين مرتبطتين اقتصاديًا وجغرافياً وسياسيًا مثل مصر وتركيا.
وفقًا للبيانات المنشورة على موقع وكالة أس أند جلوبال بلاتس، المعني بقياس مؤشرات أسعار الطاقة وحركتها، قامت مصر، في الفترة ما بين أكتوبر وديسمبر، بتصدير سبع شحنات من الغاز المسال، إلى تركيا، من خلال محطات إدكو ودمياط. وهذه هي أول مرة تستورد فيها تركيا هذه الكمية الكبيرة من الغاز المسال من مصر منذ استثمار مصر في استخراجه وتصديره قبل خمس سنوات بالتعاون مع شركات عالمية متخصصة في هذا المجال. في الماضي، اقتصرت صادرات مصر إلى تركيا، في إطار المنتجات البترولية، على الزيوت المعدنية والبلاستيك.
إن تركيا متعطشة دائمًا للغاز، حيث أنه مصدر الطاقة الرئيسي للتدفئة والإضاءة لعدد سكان يزيد على الثمانين مليون، بالإضافة إلى حوالي تسعة ملايين لاجئ. تتجاوز فاتورة الغاز التي تدفعها تركيا بشكل سنوي الخمسين مليون دولار، مع توقعات بأن الطلب التركي على الغاز سيرتفع إلى مستوى قياسي يبلغ ستين مليار متر مكعب بنهاية عام ٢٠٢١. وغني عن الإشارة هنا حجم العبء الثقيل الذي يمثله ذلك على الاقتصاد التركي الذي يعاني بشدة هذه الفترة.
طيلة عقود، اعتمدت تركيا على إيران وقطر وأذربيجان بشكل رئيسي في الحصول على احتياجاتها من الغاز الطبيعي. لكن في خلال عام ٢٠٢١، وصلت عقود تركيا مع إيران وأذربيجان إلى نهايتها، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات لتجديدها حتى الآن. في نفس الوقت، لدى تركيا عقد مع الجزائر، ينتهي في ٢٠٢٤، لاستيراد الغاز منها عبر الخط الممتد إلى أوروبا. لكن يبدو أن القرارات غير الحكيمة التي اتخذها صانع القرار الجزائري مؤخرًا، سوف تجعل الجزائر تبدو كشريك تجاري غير موثوق بالنسبة لتركيا أو أوروبا. حيث أنه في خضم توتراتها مع المغرب بشأن الصحراء الغربية، أنهت الحكومة الجزائرية فجأة عقد خط أنابيب الغاز الذي يمتد عبر المغرب لتوصيل الغاز إلى إسبانيا ومن هناك إلى أوروبا. على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، كانت المغرب تحصل على نسبة ١٠٪ من الغاز الذي يمر عبر أراضيها كأجر أو عمولة لاستضافة خط الأنابيب الجزائري. من هذا المنطلق، ظن صانع القرار في الجزائر أنه بفسخ العقد سيضر المغرب، لكن ما حدث في الواقع هو أن الجزائر أضرت باقتصادها وسمعتها كمستورد إقليمي للغاز.
هذه العوامل مجتمعة تؤشر على أنه ربما نشهد زيادة في اعتماد تركيا على استيراد الغاز الطبيعي من مصر في السنوات القليلة المقبلة. بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن القرب الجغرافي بين تركيا ومصر يجعل إمكانات التعاون في هذا القطاع تحديداً مربحة للغاية لكلا الطرفين، حيث يمكن لتركيا استيراد الغاز من مصر بسعر أقل نسبيًا، لأن تكلفة النقل ستكون محدودة، وهو الأمر الذي قد يتحسن لو توصل البلدان إلى طريقة لعمل اتفاقية ترسيم حدود في البحر المتوسط، إذ سيصبح بمقدورهما إنشاء خط أنابيب خاص بهما لنقل الغاز، والذي سيحول مصر وتركيا، بشكل مشترك، إلى محور اقتصادي مهم بين أوروبا وأفريقيا وأسيا.
على الرغم من اتفاقيات ترسيم الحدود بين مصر وخصوم تركيا التاريخيين، اليونان وقبرص، فقد حرصت مصر دائمًا على عدم التعدي على المناطق التي تعتبرها تركيا مناطق سيادة خاصة بها في البحر المتوسط. في أوائل شهر مارس، نشرت وزارة البترول المصرية خريطة تعيد تعيين موقف مجموعة العطاءات "EGYMED-W18"، والتي أوضحت فيها أن أنشطة التنقيب عن الغاز المخطط لها لن تتجاوز نقطة "ميريديان-٢٨"، التي تعتبرها تركيا منطقة تابعة لها، في إطار حدود الجرف القاري التركي.
على الفور، رحب وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بالخطوة المصرية في تصريحات نادرة، قائلاً "إن احترام مصر لجرفنا القاري مهم. لدينا العديد من القيم التاريخية والثقافية المشتركة مع مصر. تفعيل هذه القيم يمكن أن يحدث فرقا في العلاقات في الأيام المقبلة، وربما نبرم اتفاقية بحرية بين تركيا ومصر في المستقبل القريب". أثارت تصريحات خلوصي أكار الوجيزة والصادقة، وقتها، الكثير من الجدل في المنطقة، خاصة في اليونان وقبرص، لكنها لقيت استحسانًا في مصر، وكانت بداية للتواصل الدبلوماسي بين البلدين من أجل المصالحة.
في فبراير من العام المقبل، من المتوقع أن يعقد الجانبان، المصري والتركي، الجولة الثالثة من المفاوضات الدبلوماسية فيما بينهما. دعونا نأمل أن يكون غاز المتوسط الذي سبق وتسبب في صراعات عديدة بين الجيران في هذه المنطقة، يصبح هو حلقة الوصل التي ستربط تركيا ومصر في مصير واحد لتحقيق مصالحهما الثنائية وكذلك مصالح شعوب المنطقة.