هل يمكن أن نلوم غريباً صفق لقريب على إساءته الظن والتقدير؟ دارت هذه الفكرة في رأسي بينما كنت أطالع تقرير الخارجية الأمريكية عن حالة حقوق الإنسان في مصر، والذي أبرز في مقدمته إحصائيات تدعم إدعاءات سبق دحضها مراراً، تستهدف الأداء الأمني لوزارة الداخلية والقوات المسلحة تحديداً، بدءاً من تشديد القبضة الأمنية على المدافعين عن حقوق الإنسان ووجود حالات الاختفاء القسري بالمئات وسوء ظروف الاحتجاز، معتمداً على تقارير صادرة بالفعل عن المجلس القومي لحقوق الإنسان.
فقد ذكر تقرير الخارجية الأمريكية هذه الإدعاءات دون أن يعقبها بالردود الرسمية التي قدمتها الدولة، وإن كان ذلك يمثل قصور واضح في بنية التقرير، إلا أنه مبني على تقصير مدمر من جانب المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي خالف دوره كثيراً، بتشكيله الحالي الذي يغلب عليه صبغة المعارضة السياسية، في دعم مصر لتنفيذ أجندة التنمية الحقوقية، واقتصر دوره فقط على إصدار مثل هذا التقارير بين الحين والآخر دون أن يقدم حلول أو أي انتقادات بناء لا هدم، وهذه مسألة سأفندها تفصيلاً في مقال لاحق، حتى لا يخرج هذا المقال عن موضوعه الأصلي وهو تقييم التقرير الذي أصدرته الخارجية الأمريكية بالأمس عن حالة حقوق الإنسان في مصر.
أولاً من الناحية الفنية، فإن التقرير ضعيف للغاية، حيث اعتمد في أغلبه على أخبار متداولة في وسائل الإعلام دون حتى أن يذكر مصادر هذه الأخبار حتى يتحرى القاريء مدى مصداقية ناقليها، وفي بضعة مواضع أخرى اعتمد التقرير على النقل من تقارير صادرة عن بعض المنظمات الحقوقية المحلية، التي قام بتجهيل أغلبها، ولم يذكر منها إلا منظمتان فقط، هما منظمتان غير شرعيتان وتعملان خارج إطار القانون ومعروف عنهما إصدار تقارير وأرقام مبالغ فيها وغير موثقة، كما أعتمد أيضاً في بعض المواضع الأخرى على النقل عن منظمة العفو الدولية، وهي المنظمة سيئة السمعة والمعروف عنها تحيزها الشديد ضد مصر بسبب وجود قيادات داخل المنظمة ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين.
ثانياً من ناحية التوثيق، تعمد التقرير تجاهل كل المجهودات التي قامت بها الدولة في إطار:
1. تنمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكل المشروعات الضخمة التي قامت بها الدولة لتوفير حياة كريمة لسكان المناطق الخطرة وإنهاء ظاهرة العشوائيات، في إطار سياسة عامة لمحاربة الإرهاب بالتنمية وليس بالسلاح فقط، وتوفير المناخ المناسب الذي يستطيع به المواطنون ممارسة حقوقهم الإنسانية والمدنية التي يكفلها الدستور، وهو نهج كانت قد اعلنته الولايات المتحدة نفسها تحت إدارة أوباما، وروج له الأكاديميون والباحثون هناك كثيراً.
2. محاربة الفساد المالي والإداري، حيث ذكر تقرير الخارجية الأمريكية وقائع فساد تعود لأعوام 2011 – 2013 وحمل مسؤوليتها على عاتق القيادة السياسية الحالية في مصر، مع العلم أن الرئيس السيسي لم يتولى الحكم إلا في منتصف 2015، وأبرز التقرير إدعاءات المستشار هشام جنينة عن الفساد الذي يقدر بالمليارات رغم أنه هو بنفسه لم يستطع إثباتها حين واجهته النيابة، في حين تجاهل التقرير تماماً كل المجهودات الجبارة التي تقوم بها هيئة الرقابة الإدارية في مصر منذ عامين وأدت لتطهير قطاع كبير من أجهزة الدولة من كبار الفاسدين، بما في ذلك وزراء وموظفين حكوميين في مناصب رفيعة.
3. رعاية اللاجئين، إذ أسهب تقرير الخارجية الأمريكية في ذكر أرقام بالمئات للاجئين وطالبي لجوء سياسي قامت مصر بتعذيبهم وحبسهم وقام المجتمع بالتمييز ضدهم، في مغالطة فجة للواقع، فلسنا مثل دول أوروبا التي تضع اللاجئين في مخيمات على الحدود، تفتقر لأبسط الاحتياجات الإنسانية، بل إن اللاجئين في مصر يعيشون بين أهل البلد ويحصلون على ما يسعون إليه من فرص عمل مثلهم مثل أي مواطن مصري، ولم نرى واقعة واحدة قام فيها مصرييون بالتمييز ضد أي لاجيء.
بالإضافة إلى ما سبق، فقد تجاهل التقرير تماماً حقيقة أن مصر تخوض حرب ضارية ضد الإرهاب، وأن حماية وضمان الحقوق المدنية وحقوق الإنسان في ظل هذه الأمور أمر في غاية الصعوبة، ولا أقول ذلك لتبرير أي تقصير في حماية هذه الحقوق، ولكن لأن هذا واقع الأمر الذي يجب أن يعلمه العالم، فليس منطقياً أن يلوم التقرير مصر على منع سفر الصحفيين أو منظمات المجتمع المدني إلى سيناء، واعتبار ذلك تقصير في الحق في حرية التنقل، متجاهلاً الحرب الدائرة هناك، أو أن يلوم التقرير القيادة السياسية في مصر على العمليات الأرهابية التي وقعت في حق المواطنين المسيحيين وممتلكاتهم، متجاهلين تماماً ما قامت به الدولة لإصلاح ما هدمه الإرهابيون، أو أن يلوم التقرير على تعريض الإرهابيين لمحاكمات سواء مدنية أو عسكرية، أو حتى تصفيتهم في اشتباكات مسلحة دفاعاً عن الأرض وسلامة الوطن، مثلنا في ذلك مثل فرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تعرضت لهجمات إرهابية لا تساوي واحد على مائة مما يدور في مصر.
بقي أن نذكر أن هذا التقرير قد كتب في السنة الأخيرة من عهد الرئيس أوباما، وهذا ما يجعلنا إلى حد كبير متفهمين ما وراءه من دوافع جعلته يخرج بهذا الشكل الهزيل وهذا الكم من المغالطات، ونأمل أن تكون بداية العهد الجديد في العلاقات المصرية الأمريكية سبيلاً لفهم أعمق لما تمر به مصر من تحديات.