إن الاقتتال الدائر حالياً بين غزة وتل أبيب هو أكثر المعارك تدميراً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، منذ الحرب على غزة في ٢٠١٤، إذ أن خسارة المئات من الأرواح البريئة والأضرار المادية التي أصابت البنية التحتية والممتلكات الخاصة ليست سوى جزء بسيط من الدمار الأكبر الذي ينتظر منطقة الشرق الأوسط جراء هذه الحرب، والذي يتمثل في التكاليف غير المباشرة لإخماد المجهودات التي اتخذت في السنوات القليلة الماضية من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى إعادة تمكين المتطرفين الإسلاميين والمنظمات الإرهابية وعودة خطابهم المتطرف إلى مقدمة المشهد السياسي.
في الأسبوع الأول من شهر مايو، والذي كان أيضًا الأسبوع الأخير من شهر رمضان المبارك، نشبت مشادات اعتيادية بين أربع عائلات فلسطينية ومستوطن إسرائيلي في حي الشيخ جراح، ترتب عليها تنظيم مجموعة من الاحتجاجات في القدس، وسرعان ما تحولت الاحتجاجات التي بدأت سلمية إلى أعمال شغب أدت إلى اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية. وبين عشية وضحاها، تصاعد المشهد برمته إلى حرب حقيقية تتمثل في هجمات متبادلة بمئات الصواريخ بين غزة وتل أبيب، وما زالت الحرب مستمرة ومتصاعدة منذ أكثر من أسبوع.
بحسب الإحصائيات الأخيرة الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية، في ١٧ مايو، فإن الحرب قد أودت بحياة ١٩٧ فلسطينياً، حتى الآن، بينهم ٥٨ طفلاً و٣٤ امرأة، فيما أصيب ما لا يقل عن ١٢٣٥ فلسطينيًا. بالإضافة لذلك، قامت قوات الطيران الإسرائيلية بقذف عدد من المباني السكنية والإدارية في غزة. حتى الآن، تم هدم تسعة مبانٍ، بما في ذلك مبنى مكون من ١٢ طابق كان يضم مكاتب إعلامية لكبرى المؤسسات الإعلامية الإقليمية والدولية. وبرر الجيش الإسرائيلي تدمير المباني بأنهم لديهم معلومات تؤكد أنها تستخدم كأماكن سرية لاجتماعات حماس وأنشطتها الاستخباراتية.
على الجانب الآخر، أعلن الجيش الإسرائيلي مقتل تسعة إسرائيليين، بينهم جندي وامرأتان، جراء إطلاق حماس للصواريخ على مناطق سكنية. بحسب إحصائيات رسمية نقلاً عن الحكومة الإسرائيلية، أطلقت حماس أكثر من ألفين صاروخ على تل أبيب، لكن قرابة ٤٠٠ صاروخ منها أخفقت وسقطت داخل غزة. على ما يبدو أن حماس تعمدت إطلاق هذا العدد الكبير من الصواريخ على فترات متقاربة لإرباك نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي المعروف باسم "القبة الحديدية". لكن النظام نجح في اعتراض أكثر من ٥٠٪ من الهجمات الصاروخية لحركة حماس، بحسب تصريحات عسكرية إسرائيلية. ولنا هنا ملاحظة جانبية حول كيف ومتى تمكنت حماس من الحصول على هذا العدد الكبير جداً من الصواريخ. ربما يكون هذا الموضوع المثير للاهتمام مادة جيدة للبحث، بعد انتهاء الحرب.
يتابع كبار المسؤولين حول العالم تلك الأحداث المأساوية بقلق كبير، لكن القليل منهم قرر أن يتدخل بشكل عملي لإنهاء الحرب أو السيطرة على الأضرار المترتبة عليها. فقد أدانت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بالفعل العنف الدائر ودعوا إلى وقف إطلاق النار. كما أدانت جامعة الدول العربية والدول الأعضاء فيها، بشكل جماعي وبشكل فردي، تجدد الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ودعوا للإسراع في إقامة السلام. وربما تكون مصر هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي اتخذت خطوات على الأرض للتخفيف من حدة الحرب على الفلسطينيين في غزة، نظراً لتجاورها الجغرافي المباشر مع قطاع غزة ومع إسرائيل، حيث قامت الدولة المصرية بإرسال مساعدات طبية إلى غزة والتواصل بشكل مباشر مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين في محاولة لتهدئة الصراع منذ بدايته، وفتحت مصر سيناء للمدنيين في غزة الذين يبحثون عن مأوى وبحاجة لمساعدة طبية، على الرغم من المخاطر التي قد تنتج عن ذلك على الحالة الأمنية في سيناء.
على المستوى الشعبي، يشعر الكثير من العرب، والمصريين على وجه الخصوص، بالانزعاج والحيرة تجاه حالة الحرب الدائرة في بيت الجيران. يحمل أغلب المصريين في قلوبهم تعاطف واضح تجاه الأبرياء من المدنيين الفلسطينيين الذين يصارعون الموت على مدار الساعة. لكنهم، في الوقت نفسه، يرفضون إظهار أي تعاطف أو دعم تجاه حركة حماس، التي لم تتردد في قتل الجنود المصريين في سيناء، بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٥، انتقاما لإزاحة الإخوان المسلمين عن الحكم في القاهرة.
في الواقع، فإن الطرف الوحيد المستفيد من الحرب الحالية هو المتطرفون الإسلاميون الذين ينتشرون كالجراد في كافة ربوع الشرق الأوسط، تحت مسميات وشعارات متنوعة، ومن بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية الكبرى مثل داعش والقاعدة وشبيهاتها من الجماعات المتطرفة الأصغر حجماً. تبني معظم هذه الجماعات شرعيتها في أعين أتباعها ومموليها على تصوير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أنه حرب دينية بين المسلمين واليهود.
لهذا فإن عودة ظهور المشاهد العنيفة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على المحطات التلفزيونية ومنصات التواصل الاجتماعي المؤثرة في الرأي العام في المنطقة، هو نذير خطر بإعادة تمكين هؤلاء المتطرفين من خلال منحهم مساحة ومادة مناسبة لإعادة طرح خطابهم المتطرف عن "الحرب بين الإسلام واليهودية" وبالتالي إعادة ترسيم أنفسهم في صدارة المشهد السياسي مرة أخرى.
إن ركوب الجماعات الإسلامية الإرهابية والمتطرفة على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يشكل تهديدا لجميع الجهود التي بذلت خلال السنوات الثلاث الماضية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط ومحاربة التطرف الديني، بما في ذلك الإمكانات الواعدة لاتفاقات إبراهيم التي وقعت، العام الماضي، بين إسرائيل وبعض الدول العربية، والتي باتت الآن مهددة بالفشل أو على الأقل مهددة بالتجميد، مثلها مثل ما سبقها من اتفاقيات سلام. كما أصبح الخبر التاريخي عن انضمام حزب إسلامي عربي إلى تشكيل الحكومة الإسرائيلية المقبلة، أمر غير قابل للتحقيق بعد اشتعال الحرب والقبض على مئات العرب داخل إسرائيل خلال الأسبوع الماضي. كما أصبحت الدعوة الملحة لتغيير القيادة السياسية الفلسطينية، من خلال انتخابات حرة ونزيهة، أمر غير ذات أهمية في ظل ضبابية الحرب.
إن هذا التراجع تحديداً والعودة إلى المربع صفر بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط هو الضرر الحقيقي الذي سببته الجولة الحالية من الحرب بين غزة وتل أبيب، وهو أمر لن يتضرر منه الإسرائيليون أو الفلسطينيون وحدهم، بل سيضر منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وسيتطلب الأمر سنوات طويلة لإصلاحه.