منذ إعلان نتائج انتخابات السلطة التنفيذية في ليبيا، الأسبوع الماضي، والتي انتهت بفوز القائمة التي تضم الدبلوماسي المعروف محمد يونس المنفي رئيساً للمجلس الرئاسي، ورجل الأعمال الشهير عبد الحميد دبيبة، رئيساً للحكومة، لم تتوقف التصريحات الخارجة عن كبار المسؤولين في تركيا، والتي تحاول كلها تأكيد أن تركيا ما زال لها نفوذ في داخل ليبيا، وأن الحكومة الجديدة تؤيد استمرار التواجد التركي هناك، لا سيما التواجد العسكري، وهو ما ينافي المنطق الذي تفرضه المرحلة السياسية الجديدة في ليبيا، ويتناقض أيضاً مع التصريحات التي أدلى بها كبار المسؤولين في الحكومة الجديدة في ليبيا في هذا الشأن.
على سبيل المثال، علق ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على تولي الحكومة الجديدة بتصريحات تتحدث عن ليبيا وكأنها ولاية من ولايات تركيا، وليس كدولة مستقلة وصاحبة سيادة، حيث قال أقطاي إن "تركيا تتواجد في ليبيا بدعوة من الشعب الليبي وحكومة الوفاق، والحكومة المؤقتة الجديدة لا تعارض الوجود التركي في البلاد، بل تدعم الدور التركي هناك". في حين أن كل تصريحات المسؤولين الليبيين في هذا الشأن، تناولت العلاقة مع تركيا في إطارها الدبلوماسي الطبيعي بين دولة مستقلة ترغب في توطيد التحالف السياسي والعسكري مع دولة صديقة، ولم يكن فيها أي تأكيدات أو ترحيبات باستمرار التواجد التركي في ليبيا بالشكل الذي كان قائماً في ظل حكومة الوفاق، حيث قال عبد الحميد دبيبة، رئيس الوزراء في الحكومة الليبية الجديدة إنه ينظر إلى تركيا كدولة "حليفة وصديقة وشقيقة وعندها من الإمكانات الكثيرة لمساعدة الليبيين في الوصول إلى أهدافهم الحقيقية".
تستند تركيا على الاتفاقات التي أبرمتها مع حكومة الوفاق في تبرير استمرار وجودها في ليبيا، رغم كل المستجدات السياسية الأخيرة. في ديسمبر ٢٠١٩، وقعت تركيا اتفاقيتين مع حكومة الوفاق. الأولى كانت اتفاقية ترسيم بحري تحدد منطقة اقتصادية خالصة في البحر المتوسط تمتد من جنوب غرب تركيا إلى شمال شرق ليبيا. وعلى الرغم من أن الاتفاقية تتناقض مع ما هو منصوص عليه في اتفاقيات الأمم المتحدة والقوانين الدولية ذات الصلة، استطاعت تركيا استخدام هذه الاتفاقية بنجاح في الالتفاف حول نزاعها القائم منذ عقود مع اليونان حول حقوقها في الاستفادة من موارد قاع البحر، مما حول شرق المتوسط إلى قطعة من الجحيم، الصيف الماضي، حيث وفدت إليه السفن الحربية والفرقاطات العسكرية من جميع أنحاء العالم للمشاركة في المأساة، تحت ستار إجراء تدريبات بحرية عسكرية، وتسبب ذلك في تهديد أمن المنطقة بالكامل.
أما الاتفاقية الثانية، التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق في نفس التوقيت تقريبًا، هي اتفاقية تدريب ودعم واستشارات عسكرية. وبناءً على هذا الاتفاق العسكري، نشرت تركيا قوات ومعدات عسكرية في ليبيا، واستولت على قاعدة الوطية الجوية، وقامت وما زالت بتدريب عناصر الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق في الكليات العسكرية التركية. وفي شهر ديسمبر، صرح خلوصي أكار أن "حوالي ثلاثة آلاف ليبي تلقوا التدريب على يد القوات التركية" كجزء من هذه الاتفاقية. وتذكرنا هذه الاتفاقية العسكرية بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية بالاتفاقية التي وقعتها تركيا مع أذربيجان في التسعينيات، والتي مكنت تركيا من بناء جيش أذربيجاني قوي، من الصفر تقريبًا، وأصبح هذا الجيش اليوم موالٍ تمامًا لتركيا، وقد عزز الانتصار الأخير للجيش الأذربيجاني في الحرب مع أرمينيا، نفوذ تركيا على منطقة القوقاز وأوراسيا بأكملها.
إلا أنه في ٢٦ يناير، قضت الدائرة الإدارية لمحكمة البيضاء، في ليبيا، بعدم قانونية الاتفاقيتين البحرية والعسكرية بين ليبيا وتركيا، واعتبرتهما انتهاك لسيادة ليبيا، بما يتفق تماماً مع الحجج التي سبق أن قدمها البرلمان الليبي لتبرير رفضه التصديق على تلك الاتفاقيات. وبناءً عليه، فإن جميع القرارات التي سبق واتخذها المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، اعتماداً على هذه الاتفاقيات، قد أصبحت قرارات باطلة، وغير ملزمة بأي حال للحكومة الجديدة، وهذا يعني أن الوجود العسكري التركي في ليبيا أصبح رسميًا أمر غير قانوني، كما أن أنشطة تركيا البحثية في البحر المتوسط المعتمدة على الترسيم البحري المنصوص عليه في اتفاقيتها البحرية مع ليبيا، قد أصبحت غير قانونية أيضًا.
أضف إلى ذلك حقيقة أن استمرار التواجد العسكري في ليبيا، لثمانية عشر شهر قادمة، والذي صدق عليه البرلمان التركي في ديسمبر، مخالف لاتفاقية وقف إطلاق النار التي صدرت برعاية الأمم المتحدة في إطار منتدى الحوار السياسي الليبي، والتي وضعت تاريخ ٢٣ يناير كحد أقصى لخروج كل القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، بما فيها العناصر التابعة لتركيا، صاحبة العدد الأكبر من القوات العسكرية وعناصر المرتزقة داخل ليبيا، حيث أنه على مدار العام الماضي فقط، تجاوز عدد العسكريين الأتراك المبعوثين إلى ليبيا أكثر من ثلاثة آلاف ضابط وخبير عسكري، يشرفون على أكثر من ١٨ ألف مرتزق، أغلبهم سوريين، وفقاً لبيانات صادرة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهذا رقم ضخم إذا ما قورن مثلاً بعدد المرتزقة التابعين لروسيا داخل ليبيا، البالغ عددهم نحو ألفين مقاتل، ضمن مجموعة فاغنر.
صحيح أن الحكومة الليبية المنتخبة حديثاً هي حكومة مؤقتة، لكن انتخابها، وتنوع تشكيلها، هو بمثابة إعلان لبداية مرحلة سياسية جديدة تماماً داخل ليبيا، مرحلة تقوم على التصالح بين كل الأطراف المتصارعة داخل الدولة، شرقاً وغرباً، وتوحيد الصف، وتحقيق الاستقرار، وبالتالي لن يكون لتركيا أو غيرها أي وجود داخل ليبيا المستقبل، إلا كحليف دبلوماسي يحترم سيادة الدولة الليبية على أراضيها وثرواتها، ولا يتدخل في شئونها. هذا ما يجب على الدولة التركية أن تدركه وتعمل وفقاً له إذا كانت لا تزال ترغب في الحفاظ على علاقتها مع ليبيا الجديدة.