كان واضحاً من التصريحات المبكرة لحملة بايدن الانتخابية أن إدارته لن تبدي نفس الود الذي سبق وابدته إدارة ترامب تجاه دول الخليج العربي، خصوصاً السعودية والإمارات. وليس سراً أن غالبية الدول في الشرق الأوسط، باستثناء إيران، كانت تتمنى أن يفوز ترامب بفترة رئاسية جديدة، حيث أن اعتماد إرادة ترامب على "الدبلوماسية الشخصية" البراجماتية في إدارة علاقته مع الشرق الأوسط، قد ساعد العديد من دول المنطقة في تحسين أوضاعها السياسية والاقتصادية وأيضاً العسكرية، خلال الأربع سنوات الماضية، وهذا لا ينطبق فقط على الدول العربية، ولكن أيضاً على الدول غير العربية في المنطقة مثل إسرائيل وتركيا.
وفي المقابل، استفادت الولايات المتحدة أيضاً من العلاقة الودية بين ترامب والقيادات الحاكمة في كل من السعودية والإمارات، وغيرها من الدول العربية. مثلاً في مايو ٢٠١٧، وقّع الرئيس الأمريكي ترامب والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز سلسلة من خطابات النوايا تتعهد فيها السعودية بشراء أسلحة من الولايات المتحدة بقيمة إجمالية ١١٠ مليار دولار على الفور، وبقيمة مجدولة ٣٥٠ مليار دولار موزعة على عشر سنوات. ومنذ ذلك الحين، ارتفعت الاستثمارات المالية التي ضختها السعودية في الاقتصاد الأمريكي بشكل غير مسبوق، إذ أنه بحسب تقارير وزارة الخزانة الأمريكية، ارتفعت سندات الخزانة الأمريكية التي تمتلكها السعودية بنسبة ٨٣٪ في عام ٢٠١٩ مقارنة بعام ٢٠١٦، أي من قيمة ٩٧ مليار دولار في ٢٠١٦ إلى ١٧٧ مليار دولار في ٢٠١٩.
وعلى الرغم من ذلك، قررت إدارة بايدن السير في الاتجاه المعاكس تماماً للمنهج الذي سارت عليه إدارة ترامب تجاه الشرق الأوسط. إذ تشير القرارات المتعلقة بالشرق الأوسط التي اتخذها الرئيس بايدن، في أسبوعه الأول كرئيس للولايات المتحدة، إلى أن إدارته سوف تتبنى سياسة قد تشكل خطر كبير على الأمن القومي لمعظم دول المنطقة. وفي جلسة الاستماع الخاصة بترشحه لمنصب وزير الخارجية أمام مجلس الشيوخ، قال وزير الخارجية الأمريكية الجديد، أنتوني بلينكين، أن بايدن "أوضح أننا سننهي دعمنا للحملة العسكرية التي تقودها المملكة العربية السعودية في اليمن. وأعتقد أننا سنعمل على ذلك في وقت قصير جدًا بمجرد أن يصبح الرئيس المنتخب هو الرئيس".
وبالفعل، بعد تنصيب بايدن مباشرةً، قررت وزارة الخارجية الأمريكية مراجعة قرار إدارة ترامب تصنيف الحوثيين في اليمن كمنظمة إرهابية أجنبية. وفي اليوم التالي، أعلنت وزارة الخارجية عن تعليق اتفاقيات بيع الأسلحة والذخيرة التي وقعتها إدارة ترامب مع السعودية لمراجعتها، وقررت أيضاَ إيقاف تنفيذ صفقة بيع الطائرات المقاتلة إف-٣٥، المستحقة للإمارات، بناءً على عقد موقع مع شركة لوكهيد مارتن، تحت إدارة ترامب. وفي نفس الوقت، أعلنت إدارة بايدن عزمها إحياء المحادثات مع إيران بشأن الاتفاق النووي، الذي كان قد تم التوصل إليه في ظل إدارة أوباما في عام ٢٠١٥، ثم أسقطته إدارة ترامب في منتصف عام ٢٠١٨، واستبدلته بفرض عقوبات اقتصادية خانقة على إيران.
بعد يومين فقط من إعلان إدارة بايدن تعليق عقود بيع الأسلحة إلى السعودية والإمارات لمراجعتها، قرر الإيطاليون أن يحذوا حذو أمريكا، حيث ألغت الحكومة الإيطالية تصاريح تصدير صواريخ وقنابل للطائرات القاذفة إلى كل من السعودية والإمارات، وكذلك منع إصدار تصاريح مستقبلية لتصدير أسلحة مماثلة إلى البلدين المذكورين. ومن المتوقع أن يؤدي إلغاء هذا الترخيص، وحده، إلى وقف توريد أكثر من ١٢٧٠٠ قنبلة إلى السعودية. وقد بررت الحكومة الإيطالية القرار بمنع احتمالية استخدام الأسلحة الإيطالية ضد المدنيين أو المساهمة في تفاقم الوضع الإنساني المأساوي في اليمن.
إن جماعة الحوثي في اليمن ما هي إلا ميليشيا تابعة لإيران، وهناك مزاعم قوية وتقارير مخابراتية منشورة تقول إن قطر تدعمها بالتمويل وتوفير المعدات العسكرية من صواريخ وطائرات مسيرة، تستخدمها ميليشيات الحوثي في استهداف المدن السعودية الحدودية، منذ بداية الحرب في اليمن عام ٢٠١٥، وكان آخر هجوم للحوثيين على السعودية قبل ثلاثة أيام فقط من تنصيب بايدن. وقبل ذلك في نوفمبر ٢٠٢٠، أطلقت مليشيا الحوثي صاروخاً على محطة توزيع نفط في جدة تابعة لشركة أرامكو السعودية، نجم عنها أضرار جسيمة للمملكة.
لقد حاولت كل من السعودية والإمارات الحفاظ على أمنها القومي، على مدى السنوات العشر الماضية، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وصعود الجماعات الإرهابية في خضم الفوضى السياسية، من خلال تحسين قدراتها العسكرية، وبالتالي انكفأت كل منهما على شراء الأسلحة ودمج التكنولوجيا المتقدمة في منظومة التسليح لديها، حتى أنه وفقاً لتصنيف جلوبال فايرباور العسكري لعام ٢٠٢١، أصبحت السعودية والإمارات من بين أفضل ستة جيوش في منطقة الشرق الأوسط، فقد تطورت الإمارات بشكل مذهل من حيث القوة العسكرية، تحت قيادة سمو الشيخ محمد بن زايد، على مدى العقدين الماضيين، ولا عجب في أن العديد من المحللين العسكريين يطلقون على الإمارات اسم "ليتل سبارتا" نظراً لكفاءتها العسكرية الفائقة مقارنة بمحدودية عدد سكانها ومساحتها الجغرافية.
إذا أتمت الإمارات صفقة شراء مقاتلات إف-٣٥ والطائرات المسيرة التي وقعت بشأنها العقود تحت إدارة ترامب، سوف يصبح الجيش الإماراتي هو الجيش الأكثر كفاءة عسكرياً والأكثر تطور تكنولوجياً بين جميع جيوش دول الشرق الأوسط. في الوقت الحالي، فإن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك وتشغل طائرات مقاتلة من طراز إف-٣٥. حتى تركيا، صاحبة أقوى جيش في المنطقة والتي كانت شريكاً في برنامج إف-٣٥ منذ بدايته في عام ١٩٩٩، لا يمكنها امتلاك المقاتلات الأكثر تفوقًا في العالم، لأنه تم طردها من برنامج تصنيع إف-٣٥ في عام ٢٠١٩، كرد فعل على شراءها نظام الدفاع إس-٤٠٠ من روسيا.
في الحقيقة، من الصعب فهم سبب تبني الإدارة الأمريكية الجديدة لمثل هذه السياسة الخطيرة والمنافية للمنطق، والتي تتعمد إضعاف القدرات العسكرية لدول مهمة لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط بالكامل، مثل السعودية والإمارات، بينما تقوي إيران وميليشياتها التي تعيث فساداً في المنطقة من شرقها لغربها. إن المنطق يحتم أن تدعم أمريكا السعودية والإمارات في مواجهة التهديدات الإرهابية من إيران وميليشياتها، وليس العكس. إن هذه السياسة الخطيرة التي تتبناها الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه الشرق الأوسط تهدد الأمن القومي لحلفاء أمريكا من الدول العربية وتهدد الأمن القومي لإسرائيل، وتهدد مصالح أمريكا الاقتصادية والسياسية في المنطقة.