مع الضغط المتزايد من جانب الاتحاد الأوروبي، وتصاعد حالة عدم الاستقرار في داخل ليبيا، قررت تركيا تحويل مساعيها في البحر الأبيض المتوسط من المياه الغربية إلى الحوض المتاخم لحدودها الجنوبية، حيث تخلت تركيا مؤقتًا عن أنشطتها على الجبهة اليونانية / الليبية المعقدة، وتسعى للدخول في معركة جديدة، تظنها أكثر سهولة، على الجبهة القبرصية / المصرية.
في ١٣ سبتمبر، سحبت تركيا سفينتها البحثية "ريس عروج" والتي تسببت ملاحتها في المنطقة البحرية المتنازع عليها بين تركيا واليونان في كثير من المشكلات، مؤخراً، وأدت إلى اشتعال التوترات العسكرية في البحر المتوسط، التي اجتذبت بدورها العديد من القوى الأجنبية (مثل فرنسا وروسيا والصين والولايات المتحدة)، الذين جاءوا بحثاً عن أي منفعة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية من المأساة الجارية هناك. وبضغط من فرنسا، قرر المجلس الأوروبي عقد اجتماع خاص، يومي ٢٤ و٢٥ سبتمبر، لبحث مسألة فرض عقوبات اقتصادية على تركيا لإجبارها على تهدئة التوتر في شرق المتوسط.
بالتزامن مع ذلك، أصبح موقف تركيا في ليبيا أضعف من ذي قبل، بسبب تصاعد حالة عدم الاستقرار والسياسات الداخلية المعقدة لحكومة الوفاق الوطني، إذ أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تدعم حكومة الوفاق ضد الجيش الوطني الليبي، وهذا يعني، على الأقل من الناحية الفنية، أن تركيا سوف تخسر في ليبيا عاجلاً أو أجلاً، فهي تقف بمفردها، مستندة على حائط حكومة الوفاق الهش، في مواجهة التحالف الإقليمي القوي، الذي يضم روسيا والإمارات ومصر ويدعم الجيش الوطني الليبي. وربما أدركت تركيا، بعد محاولة الانقلاب المزعومة ضد رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، وإعلانه عن استقالته، في منتصف سبتمبر، أنها أهدرت بالفعل الكثير من المال والوقت والجهد على معركة لن تجني منها أي غنيمة قيمة، لا في المستقبل القريب أو البعيد.
كما أن فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني المستقيل، هو الذي وقع الاتفاقية البحرية الباطلة مع تركيا في نوفمبر الماضي، وهي الاتفاقية التي تم إلغاءها بمنتهى السهولة من خلال توقيع اتفاقية تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة المعترف بها دوليًا بين اليونان ومصر، والتي تم التصديق عليها ودخلت حيز التنفيذ في أغسطس. وليس سرأ أن الغرض غير المعلن من تلك الاتفاقية المعيبة بين تركيا وحكومة الوفاق في ليبيا، ومن تدخل تركيا في ليبيا بشكل عام، هو أن تحصل تركيا على حقوق التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، وهو ما لم يعد ممكناً الآن بسبب بطلان الاتفاقية بفعل الاتفاقية الموقعة بين اليونان ومصر.
نتيجة لذلك، قررت تركيا مغادرة الجبهة اليونانية / الليبية إلى حين، وأن تكثف أنشطتها في الحوض الجنوبي، الذي تعد مصر وقبرص أهم لاعبين فيه. إلا أن استراتيجية "عسكرة السياسة الخارجية" التي اعتمدتها تركيا كاستراتيجية وحيدة للتعامل مع شؤونها في بحر إيجه، لن تنجح في التعامل على الجبهة القبرصية / المصرية، حيث أن تركيا بالفعل تحتل شمال قبرص، منذ عام ١٩٧٤، مما يمنحها مساحة محدودة لإجراء البحوث أو التدريبات البحرية حول الجزيرة المنقسمة على نفسها، دون مقاومة كبيرة من نيقوسيا، ومن ناحية أخرى، فإن تركيا بحاجة إلى تبني إجراءات دبلوماسية حكيمة وصادقة بهدف رأب صدع عمره سبع سنوات في العلاقات التركية المصرية.
خلال الأسبوعين الماضيين، أدلى العديد من الكتاب والسياسيين الأتراك بتصريحات كثيرة حول أهمية إعادة العلاقات مع مصر. في وقت سابق من هذا الشهر، قال كمال كليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي، في مقابلة تلفزيونية، إن "تركيا ارتكبت خطأ بقطع العلاقات مع مصر؛ حيث أن مصر هي مفتاح الفوز في شرق البحر المتوسط". وصدرت تصريحات مماثلة من قبل مبتكر مبدأ "الوطن الأزرق"، المقرب من أردوغان، الأدميرال المتقاعد جيم جوردينيز، في مقابلة له مع وكالة الأنباء الفرنسية. وحتى مستشار أردوغان الدكتور ياسين أقطاي، المعروف بانتقاده الدائم لمصر وسياستها، أجرى مقابلة عبر الفيديو باللغة العربية أكد فيها على ضرورة إعادة العلاقات السياسية بين تركيا ومصر لمصلحة البلدين. ولكن تبقى حقيقة، أنه وبالرغم من كل ذلك الكلام الجميل، فمن غير المرجح أن ترغب مصر السيسي في المصالحة مع تركيا أردوغان بهذه السهولة، لأن الصدع الذي أحدثه أردوغان بسبب دعمه للإخوان المسلمين ضد النظام الحاكم حالياً في مصر، هو صدع كبير جداً ويحتاج الكثير من الوقت والمجهود لإصلاحه.
مع الأسف، أشك بشدة في أن تركيا قد تنجح في مهمتها الجديدة في البحر المتوسط، إذ أنها تتطلب مهارات دبلوماسية عالية، بينما تركيا تعاني من ضعف مزمن في سلكها الدبلوماسي، يكفي أن خلوصي أكار، وزير الدفاع، أكثر مهارة في استخدام وتطبيق التكتيكات والاستراتيجيات الدبلوماسية على مستوى العلاقات الخارجية لبلاده، أكثر من وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، ناهيك طبعاً عن التصريحات غير الحكيمة التي يصدرها أردوغان بين الحين والآخر وما لها من تأثيرات سلبية للغاية على سياسة تركيا الخارجية وعلاقاتها مع العالم. ربما لو صمت أردوغان قليلاً لمنح تركيا فرصة لتنجح في مساعيها الخارجية عبر القنوات الدبلوماسية الهادئة.