لا يبدو أن صراع المتوسط بين تركيا واليونان سوف ينتهي في المستقبل المنظور، على الرغم من الضغوط الدبلوماسية من قبل الاتحاد الأوروبي على تركيا، ودعوات حلف الناتو الأطراف المتصارعة للحوار. فالغضب الذي أشعله الرئيس التركي أردوغان في حوض المتوسط الهادئ، قد اجتذب التدخل العسكري من قبل لاعبين ذوي ثقل في المجتمع الدولي. وفي أقل من سبعة أيام، قفزت كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين إلى ساحة المعركة في شرق المتوسط من خلال الادعاء الكاذب بالتدخل لفرض السلام في منطقة الصراع، أو مبادرة "السلام المتوسطي" كما أسماها الرئيس الفرنسي ماكرون، ومن ثم تحول الصراع في شرق المتوسط إلى ما هو أكبر من معركة بين اليونان وتركيا على الحدود البحرية لكل منهما؛ بما يهدد بتحويل المنطقة إلى مشهد مشابه لحروب الوكالة التي لا تنتهي في الشرق الأوسط.
في البداية، أرسلت فرنسا بارجتها الحربية الأشهر "شارل ديجول" حاملة الطائرات المزودة بالطاقة النووية إلى شرق المتوسط بدعوى أن أردوغان لم يلتزم بـ "الخطوط الحمراء" التي فرضها ماكرون، وفي الحقيقة ما زلنا لا نفهم كيف ومتى حصل ماكرون على هذا الحق الذي يخول له فرض "خطوط حمراء" على أي من الأطراف المتصارعة في البحر المتوسط، حتى أن وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، بعد أن أكمل رحلة على متن طائرة مقاتلة من طراز أف ١٦ فوق شمال بحر إيجة، في ٣ سبتمبر، كان قد علق على الأمر قائلاً: "أولئك الذين جاؤوا من آلاف الكيلومترات للعب دور الملاك الحارس، هم غير مقبولون هنا. يجب أن يغادروا كما جاءوا. فرنسا ليست دولة ضامنة، فهي لا تحمل أي اتفاق، وليست ممثلة للاتحاد الأوروبي. ما الذي أتى بفرنسا إلى هنا؟" لكن على الجانب الأخر، رحب اليونانيون بفرنسا وصفقوا لتدخلها على الرغم مما فيه من تخطي لسلطة حلف الناتو، الذي يضم في عضويته كل من فرنسا وتركيا واليونان.
وبعد يومين من التدخل العسكري الفرنسي تحت شعار فرض "الخط الأحمر"، قررت الولايات المتحدة تطبيق رفع جزئي لحظر الأسلحة المفروض على قبرص منذ عام ١٩٨٧، وتعهد وزير الخارجية الأمريكي بتعميق التعاون الأمني مع قبرص لمواجهة التهديد التركي، وهي الخطوة التي رحبت بها اليونان كثيراً، بينما رفضتها تركيا واعتبرتها إخلال بتوازن القوى في المنطقة بما يشكل تهديد على أمن تركيا. والجدير بالذكر أنه قبل أسبوع واحد من ذلك الحدث المهم، كانت قوات البحرية الأمريكية قد شاركت في مناورتين بحريتين منفصلتين مع كل من تركيا واليونان في شرق البحر المتوسط.
وفي اليوم التالي مباشرةً، أصدرت تركيا إنذارين ملاحيين (نافتكس) بشأن إجراء قوات البحرية الروسية مناورات بالذخيرة الحية بالقرب من قبرص في شرق المتوسط، في الأسبوعين الثاني والثالث من شهر سبتمبر، ويعد هذا أمر في غاية الخطورة إذ إن حوض المتوسط مكتظ بسفن بحث وفرقاطات تركية ويونانية وفرنسية، بالإضافة إلى قوات طيران تابعة لحلفاء اليونان، مثل الإمارات وفرنسا وإيطاليا، وبالتالي هناك احتمال لوقوع تصادم أو أي حادثة غير محمود عواقبها، ربما تكون هي الشرارة التي تشعل الجحيم في البحر المتوسط لسنوات قادمة.
بعد ذلك بيوم واحد، أي في الرابع من سبتمبر، قرر الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج، أخيرًا، أن يتدخل، حيث أعلن في مؤتمر صحفي، أنه "عقب المناقشات مع القادة اليونانيين والأتراك، اتفقت الدولتان الحليفتان في الناتو على الدخول في محادثات فنية تحت رعاية الحلف لوضع آليات لفض النزاع العسكري وتقليل مخاطر الحوادث المحتملة في شرق المتوسط." إلا أن رد فعل كل من اليونان وتركيا على بيان ستولتنبرج كان مفاجئًا وغير بديهي على أكثر من مستوى.
على الفور، أعلن اليونانيون رفضهم لبيان ستولتنبرج، ورفضوا المشاركة في أي محادثات مع تركيا حتى يتم إزالة جميع السفن التركية، وذلك ربما لأن هناك استياء شديد وانعدام ثقة بين اليونانيين تجاه حلف الناتو، حيث يعتقدون أن الناتو يحابي تركيا على حساب اليونان. وفي عام ٢٠١٩، وصف الرئيس الفرنسي ماكرون حلف الناتو بأنه "ميت دماغياً" بسبب عدم تصديه لتركيا. لكن في المقابل، أكد الأتراك، أكثر من مرة، استعدادهم لاستخدام مبادرة الناتو للحوار وإنهاء الصراع. وفي السابع من سبتمبر، التقى وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في أنقرة، بصديقه البريطاني القديم المارشال السير ستيوارت بيتش، الذي يشغل منصب رئيس اللجنة العسكرية لحلف الناتو. وأكد أكار في الاجتماع استعداد تركيا للحوار مع اليونانيين، وأشار إلى ضرورة إجراء محادثات فنية بين القوات من الجانبين.
في غضون ذلك، حدث ما لا يمكن تصوره، أو ربما الشيء الأكثر توقعًا في مثل هذه الأحداث، حيث جاءت الصين من أقاصي الأرض إلى منطقة الصراع الساخنة، في محاولة لإيجاد مساحة لنفسها في صراع شرق المتوسط، من خلال إعادة تنشيط المحادثات مع القادة اليونانيين حول مبادرة الحزام والطريق.
إن التعبئة العسكرية في شرق لمتوسط، وخاصة من قبل قادة المجتمع الدولي ممن ليس لهم صلة مباشرة بالصراع، هو أمر بالغ الخطورة، ولا ينبغي التسامح معه أو تشجيعه من قبل أي من الأطراف المعنية؛ أي تركيا وقبرص واليونان وجميع دول شرق البحر المتوسط. إذ لا توجد حالة واحدة، على الأقل في التاريخ الحديث، تجعلنا متفائلين بشأن المشاركة المكثفة للمجتمع الدولي في النزاعات الإقليمية أو المحلية. فقد سبق وكانت "الخطوط الحمراء" الفرنسية هي الشعار التي سقطت تحته سوريا في جحيم لا ينتهي من جراء الحروب بالوكالة على أراضيها. مخطئ من يظن أن التدخل العسكري بواسطة فرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصين سوف يحقق السلام أو يردع تركيا أو ينهي الصراع التاريخي على المناطق الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط بين تركيا واليونان، ولكن وحدها الدبلوماسية الحكيمة والحوار والمفاوضات المباشرة بين اليونان وتركيا هي التي يمكنها تحقيق السلام الدائم والمستقر.