فاجأتنا الصحف المصرية قبل أيام قليلة بعريضة دعوة قضائية رفعتها منظمة "هيومان رايتس ووتش" ضد محامي مصري محترم من القليوبية، تطالبه بتعويض مائة ألف جنيه لأنه طالب السلطات المصرية بالتصدي للمنظمة وما تصدره من تقارير وصفها بأنها مدفوعة سياسياً ضد مصر بهدف الإضرار بسمعتها وأمنها، وللأسف قامت المنظمة برفع القضية من خلال محامي مصري أخر هو الأستاذ نجاد البرعي الحقوقي المعروف.
وكم كنت أتمنى لو أن الأستاذ نجاد، بدلاً من ذلك، أن يستغل خبرته القانونية والحقوقية في التصدي لهيومان رايتس ووتش وأمثالها من المنظمات، ليس لأنها تسيء لمصر فقط بتقارير ضعيفة من حيث الصياغة وغير نزيهة من حيث المحتوى، ولكن أيضاً لأنها تسيء إلى قيمة سامية مثل حقوق الإنسان بتعمدها لإصدار بيانات وتقارير تبدو في ظاهرها أنها تقارير حقوقية لكن بداخلها هي تقارير سياسية منحازة تستهدف إظهار الصورة في مصر على غير حقيقتها.
فلا يخفى على أحد الأكاذيب التي ساقتها منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها عن أحداث رابعة والنهضة والتي فُضحت عندما خرج صحفي مصري استعانوا بشهادته في هذه التقارير وقال أنهم وضعوا على لسانه كلام غير الذي قاله لهم، وأن المعلومات التي أورودوها في التقرير بشكل عام ليست صحيحة.
ولا يخفى على أحد أيضاً تعمد منظمة هيومان رايتس ووتش تجاهل التعليق – مجرد التعليق – على الحادث البشع الذي قامت به داعش قبل أشهر قليلة بذبح واحد وعشرين مواطن مصري مسيحي في ليبيا، وبدلاً من أن تدين ذلك العمل الإرهابي البشع أدانت القيادة السياسية في مصر لأنها قررت أن ترد على هؤلاء الإرهابيين وتعطيهم درساً في عقر دارهم، رغم أن القوات المصرية كانت تتعاون مع القوات الليبية صاحبة الأرض في هذه العملية العسكرية، أي أنها لم ترتكب أي انتهاك من أي نوع. وكأن هيومان رايتس ووتش تحولت بذلك الفعل من منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان إلى منظمة للدفاع عن الإرهابيين.
وكم أزعجني أنا شخصياً الكذبة الكبيرة التي رددتها نفس المنظمة في جلسة مصر بمجلس حقوق الإنسان لتبني توصيات المراجعة الدورية الشاملة في شهر مارس، حيث أدعت المنظمة أن ما يحدث في مصر من انتهاك للحقوق والحريات هو أمر غير مسبوق في تاريخها، قالت المنظمة ذلك على الرغم من أن المرحلة الحالية في مصر – وهذه حقيقة واضحة وضوح الشمس – هي الأكثر ازدهاراً من حيث الحقوق والحريات رغم كل المعوقات الأمنية بسبب الأعمال الإرهابية التي تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها على طول وادي النيل أو الحرب الضارية التي تخوضها مصر وحيدة ضد الإرهاب على حدودنا الشرقية وعلى حدودنا الغربية أيضاً مؤخراً.
وتناست المنظمة – ربما عمداً – أن أقدس حق من حقوق الإنسان هو الحق في حياة أمنة، وبدلاً من أن تدين الإرهابيين الذين يخربون في داخل الوطن كل يوم، فهي تدين السلطات المصرية التي تقوم بالقبض عليهم ومحاكمتهم في إجراءات قضائية وأمام محاكم عادية هم لا يستحقونها، فالمنطق يقول أن طريقة التعامل مع الإرهابي ليست إطلاقاً كطريقة التعامل مع المجرم. الحرب على الإرهاب تتطلب التعامل الفوري والحاسم مع عناصره على عكس التعامل مع المجرمين الذين يكون لهم الحق في التمتع بالظهور أمام قاضيهم الطبيعي واتخاذ الإجراءات اللازمة التي تكفل لهم حق الدفاع عن أنفسهم وإثبات براءتهم. وربما ما حدث في فرنسا من قيام السلطات هناك بتصفية الإرهابيين مباشرةَ دون تحقيقات ولا محاكمات بعد حادث شارلي إبدو الشهير هو أبلغ مثال على ذلك. ولم نرى أحد سواء كانت هيومان رايتس ووتش أو غيرها عاب على السلطات الفرنسية أو اتهمها بانتهاك حقوق الإنسان لأنها قامت بتصفية إرهابيين دون تحقيقات.
لسنوات طويلة كانت منظمة هيومان رايتس ووتش وغيرها من المنظمات المعنية بقضايا حقوق الإنسان على المستوى الدولي محل أحترام وتقدير كبيرين في الأوساط الحقوقية والإعلامية داخل مصر، حتى أنه في بعض الأحيان كنا كحقوقيين نستعين بتقارير المنظمة ونطمئن لما تقدمه من معلومات عن الشأن الداخلي المصري أكثر من ثقتنا في مصداقية المعلومات التي تقدم لنا من مصادر بالداخل، وذلك لأن المنظمة لم يكن لها تحيز واضح مع أو ضد السلطة الحاكمة في مصر وقتها، وكان معيارها الوحيد في تقييم الأمور بشأن مصر لا يتجاوز إيمانها واهتمامها بحقوق الإنسان.
لكن هذا الموقف تغير كليةً بعد ثورة 30 يونيو التي أطاحت بنظام الإخوان المسلمين، وتحديداً مع بداية إقامة أوكار التخطيط والتنفيذ للعمليات الإرهابية في رابعة والنهضة بعد ثورة 30 يونيو بشهرين. منذ ذلك التوقيت، تحولت منظمة هيومان رايتس ووتش من مناصرة حقوق الإنسان إلى استغلال كل فرصة ممكنة للهجوم على النظام المصري من جانب وتصوير جماعة الإخوان الإرهابية على أنها فصيل سياسي مضطهد.
وبعملية رصد بسيطة لما تصدره المنظمة من تقارير سنلاحظ أنها ركزت بشكل أساسي على الانتقاد الدائم لأداء الشرطة المصرية وقوات الأمن، ومحاولة تضخيم صورة كاذبة بأن الشرطة تمارس أعمال وحشية في حق مدنيين عزل، فمثلاً في تقرير هيومان رايتس ووتش عن رابعة والنهضة، تعمدت المنظمة تجاهل حقيقة أن أول شهيد سقط صباح يوم فض الاعتصام كان هو ضابط الشرطة الذي كان يحمل البوق الذي كان يناشد من خلاله المتجمعين في مكان الاعتصام بالخروج عبر الممر الأمن ويعدهم فيه أنه لن يمسهم أحد بسوء وأن الرصاصة التي قتلته جاءت من داخل الاعتصام أو بالأحرى الوكر الإرهابي الذي كانت تحاول الشرطة فضه.
ولعل إعتماد هيومان رايتس ووتش على انتقاد الشرطة وتصويرها بهذه البشاعة في ظروف الحرب على الإرهاب التي تمر بها مصر والتحدي الضخم الذي تواجهه الشرطة المصرية في الموازنة بين الحفاظ على الحد الأدنى من الأمن والاستقرار دون المساس بحقوق وحريات المواطنين – وهو أمر لو تعلمون عظيم – يمكن تفسيره على مستويين.
المستوى الأول يصب في حقيقة أن الشرطة هي التي تتعامل بشكل مباشر مع المخربين من جماعة الإخوان الإرهابية وفي إضاعفها أو تقييدها بإدعاء أنها تنتهك حقوق الإنسان إتاحة لفرصة أكبر لجماعة الإخوان لتختبيء في افتعال مظلومية تمكنها من ممارسة ما تريد من إرهاب أو في أحسن الأحوال أن تبرر ما تمارسه من تخريب على أنه رد فعل على عنف الشرطة تجاههم.
والمستوى الثاني يتعلق بكون الشرطة هي الذراع المكسور لمصر والذي يمكن لهم الضرب عليه لإحداث أكبر قدر من الألم والتشتيت للسلطات المصرية عن المضي قدماً في إنجاز خارطة الطريق ورفع مصر من عثرتها. والمقصود بوصف الذراع المكسور هنا، هو تاريخ الغضب تجاه جهاز الشرطة وأفراده والتي واكبت مرحلة ثورة يناير والسنوات القليلة التي سبقتها، بما أجج مشاعر سلبية انتهت مع إعلان سقوط الإخوان في يوليو 2013، بمشهد درامي هز القلوب حيث كان المواطنون ورجال الشرطة يتعانقون في الميادين العامة مهنئين بعضهم على استعادة مصر وعلى عودتهم لبعضهم البعض يداً واحدة في مواجهة الإخوان أعداء الداخل.
إن هيومان رايتس ووتش أو غيرها من المنظمات الحقوقية ومراكز الأبحاث التي تهتم بمسائل حقوق الإنسان على مستوى العالم ليست منزهة عن اتهامها بالانحياز، خصوصاً لو كانت منظمة ذات مصادر تمويل مجهولة مثل هيومان رايتس ووتش. فعلى سبيل المثال، أعاني أنا وزملائي في "المركز المصري لدراسات الديمقراطية الحرة" منذ فترة للحصول على أي وثائق أو حتى مجرد معلومات عن مصادر تمويل هذه المنظمة لنضعه ضمن تقرير ننوي تقديمه إلى مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة لسحب الصفة الاستشارية التي تحظى بها لدى الأمم المتحدة، وسندفع في طرحنا بأنها تستهدف مصر بتقارير مدفوعة سياسياً مستغلة بذلك عملها في مجال حقوق الإنسان.
وكان أقصى ما استطعنا أن نحصل عليه من معلومات عن تمويل المنظمة هو أنها "منظمة مستقلة لا تتلقى تمويلات من حكومات وتعتمد فقط في مصادر تمويلها على مصادر خاصة من أفراد" ولم تذكر أي شيء عن من هم هؤلاء الأفراد أو المصادر الخاصة، بما يجعلنا نشك وبقوة أن السبب في الانحياز المفاجيء للمنظمة ضد مصر منذ 30 يونيو، ربما سببه أن جماعة الإخوان من خلال تنظيمها الدولي تقوم بتمويل المنظمة عبر أفرادها.
وحتى تعلن منظمة هيومان رايتس ووتش ذلك بوضوح، من خلال نشر كشف مفصل بمصادر تمويلها وأوجه الصرف على غرار كل المنظمات ومراكز الأبحاث المحترمة في العالم، لا سيما في داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي يوجد بها المقر الرئيسي للمنظمة والمسجلة لديها، فستظل كل تقاريرها محل شك، وحتماً ستخسر قدر كبير جداً من مصداقيتها على المستوى العالمي.
وأخيراً، يجب على السلطات المصرية أن تفوت أي فرصة ممكنة على مثل هذه المنظمات بمواصلة إنجاز الخطوات المتبقية في خارطة الطريق ومحاربة الإرهاب وتطوير اداء أجهزة الأمن، والعمل على التوصيات التي قبلتها مصر في المراجعة الدورية الشاملة بمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بعد المعركة الدبلوماسية التي خاضتها الخارجية المصرية بعزة وشرف على مدار الأشهر القليلة الماضية. هذا فقط، ما سيجعل العالم ينظر لمصر باحترام تستحقه، أما التقارير المدفوعة سياسياً من هنا أو هناك فهي كزبد البحر سيتلاشى تأثيرها الوهمي بعد حين، ولن يبقى لنا إلا واقع ما أنجزناه.