Wednesday, April 08, 2015

كيف نخرج بالعلاقات المصرية الأمريكية من المنطقة الرمادية



كانت العلاقات المصرية الأمريكية تسير في خط واضح كنور الشمس على طوال تاريخها، فمصر دائماً كانت بالنسبة لأمريكا إما في المنطقة السوداء المغضوب عليها كما كان الحال في عهد جمال عبد الناصر، أو في القائمة البيضاء التي تضم الحلفاء والمقربين كما كان الحال في عهد أنور السادات وخلفه حسني مبارك. 

أما تلك المنطقة الرمادية التي سقطت فيها العلاقات المصرية الأمريكية منذ ثورة يناير 2011 فهي أمر جديد تماماً في تاريخنا وتاريخهم، وهو الأمر الذي يطرح مائة علامة استفهام بشأن ما الذي تريده أمريكا من مصر بالضبط؟ 

إن المؤكد نفيه في محاولات الإجابة على هذا السؤال هو أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تهتم كثيراً بالشأن الداخلي المصري، فكل حسابات أمريكا مع مصر تقوم فقط على الدور الأقليمي الذي يمكن لمصر أن تلعبه بما يحقق مصالح أمريكا في النهاية. ولعلكم ستندهشون لو علمتم أن الإدارة الأمريكية الحالية، التي قدمت نفسها للعالم من خلال الخطاب الشهير للرئيس أوباما في جامعة القاهرة عام 2009، بوصفها الراعي الرسمي للديمقراطية وحقوق الإنسان والمحفز الرئيسي على تحقيقهما في العالم، لا تهتم كثيراً بالتطور الديمقراطي ولا بتطور ملف الحقوق والحريات في مصر على عكس ما تدعي طوال الوقت. 

وأن ما تدعيه الإدارة الأمريكية من اهتمام بهذا الشأن ما هو إلا ورقة ذات وجهين، تستخدم أحياناً كوسيلة للضغط بشكل غير مباشر على الحكومة المصرية لتحقيق مكاسب إقليمية تصب فقط في مصلحة أمريكا، وتستخدم أحياناً أخرى كحجة تساعد الإدارة الأمريكية من وقت لأخر على تبيض وجهها في جلسات كشف الحساب الدورية أمام الكونجرس بدعوى أنها تحث دول مثل مصر على احترام الحقوق والحريات، لتبعد الأنظار عن فشلها الكبير داخلياً في حماية نفس الحقوق والحريات التي تطالبنا بها، والأحداث الأخيرة في ولاية ميزوري التي انتهت بقتل الشرطة للمتظاهرين دون أي معاقبة أو حساب، هي أكثر الأمثلة فجاجة. 

ولو كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدعم حق المصريين في تحقيق الديمقراطية وما يترتب عليها من حقوق وحريات مدنية، فبما نفسر التناقض الشديد في موقفها من ثورة 25 يناير التي أيدتها بقوة لأن مصالحها مع نظام مبارك كانت قد أنتهت، وثورة 30 يونيو التي رفضتها تماماً بسبب مصالحها التي ما زالت قائمة مع نظام الإخوان، على الرغم من أن 30 يونيو كانت هي الأكثر شرعية وإلحاحاً. 

وربما السؤال الأهم، لو أن أمريكا حقاً تهتم بتدعيم التطور الديمقراطي في مصر، فلماذا توقفت عن دعم ورفع كفاءة غالبية منظمات المجتمع المدني لمجرد أنهم أنتقلوا من مربع الهجوم الأعمى على السلطة الحاكمة إلى مربع العون والمشورة والدعم، على الرغم من يقين الإدارة الأمريكية أن اللبنة الأولى لبناء أي دولة ديمقراطية هو تأسيس مجتمع مدني قوي.  

إن أهمية مصر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، نابعة وفقط من دور مصر الأقليمي على المستويين العسكري والدبلوماسي، وقد لمست بنفسي خلال زيارتي الأخيرة قبل أسبوعين للولايات المتحدة الأمريكية والتي التقيت فيها بدوائر مهمة في عملية صناعة القرار هناك أفتقاد شديد لدور مصر كحليف إقليمي للولايات المتحدة الأمريكية، حليف تستطيع أمريكا الاعتماد عليه في إدارة الأزمات التي لا تنتهي بدءاً من التوتر التاريخي في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، ومروراً بالحرب على الإرهاب ومصادره المتشعبة، وانتهاءاً بالحرب الدائرة الآن في اليمن. 

وربما هذا ما يفسر لنا محاولات الإدارة الأمريكية الآن استعادة علاقاتها مع مصر من خلال رفع الحظر على بعض المساعدات العسكرية التي كانت قد أوقفتها أمريكا منذ سقوط الإخوان قبل عامين، خصوصاً بعدما فشلت أمريكا في إيجاد شريك إقليمي بديل على مدار السنوات القليلة الماضية.

وإن كانت أهمية مصر لأمريكا يكمن في كونها الأخت الكبرى في الشرق الأوسط، فهنا يجب أن نطرح السؤال الأهم: ماذا تريد مصر بنظام حكمها الحالي وسياستها وظروفها الحالية من الولايات المتحدة الأمريكية بالضبط؟ وهل يجب علينا أصلاً بذل جهد لاستعادة هذه العلاقات الاستراتيجية والتاريخية وإخراجها من الفجوة الرمادية إلى المربع الأبيض مرة أخرى، أم أننا لن نخسر كثيراً لو تركناها لتسقط حيث تشاء؟ 

يجب أن تعجل القيادة في مصر بسرعة استغلال تلك النافذة لإعادة ضبط العلاقة مع أمريكا كحليف وليس كتابع، وألا تنتظر مصر الإدارة الجديدة التي ستأتي بها الانتخابات في غضون عام ونصف لتنفيذ ذلك، لأنه بالرغم من كل الفواحش التي ارتكبتها إدارة أوباما وعلى رأسها دعم جماعة الإخوان الإرهابية، فإنها الوحيدة الأكثر تفهماً وتفاعلاً مع كل التحولات السياسية الضخمة التي حدثت في مصر منذ 2010 وحتى اليوم، وكما يقول المثل الأمريكي الشهير "التعامل مع الشيطان الذي تعرفه، أفضل من الشيطان الذي لا تعرفه." 

وهذا لا يعني التضحية بتحالفاتنا الدولية الأخرى التي تبدو متعارضة مع هذا التوجه، ومنها علاقتنا مع روسيا مثلاً، ذلك أن عصر العلاقات القطبية التي تعتمد على استئثار الدول العظمى بحلفائها دون منافسيها لم يعد قائماً، ونظرية الدول العظمى والصغرى أصلاً لم تعد ذات أهمية في منظومة العلاقات الدولية التي تحكم العالم اليوم، والمنطق يفرض علينا أنه بينما نحاول أن نفتح لأنفسنا أفاق جديدة مع حلفاء جدد، أن لا نخسر التحالفات القديمة. 

وتتطلب عملية إعادة التقييم من القيادة المصرية النظر إلى ما وراء العلاقات الاستراتيجية التقليدية والمساعدات العسكرية والاقتصادية المتعارف عليها، لأنه وبرغم التباعد الجغرافي بين البلدين، تستطيع مصر أن تستفيد من أمريكا فيما هو أكبر بكثير من مجرد التعاون العسكري والسياسي، ربما أكثر مما نستطيع تحقيقه مع دول أخرى أقرب لنا جغرافيا في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط. 

لماذا لا تقوم القيادة المصرية مثلاً بعمل اتفاق مع الإدارة الأمريكية يستهدف فتح أبواب للتعاون الاقتصادي المباشر مع المستثمرين الأمريكيين، بالتوازي مع عمل اتفاقيات بخصوص تحرير عمليات التبادل التجاري بين البلدين كتلك التي عٌقِدت في عهدي مبارك والإخوان، وذلك ربما سيجعلنا نقطة جذب مهمة لشركات أمريكية كبرى اضطرت للاستثمار في الصين البعيدة جداً لامتيازات أقل بكثير مما نملكها نحن. 

بالتوازي مع ذلك، يمكن أن تستفيد مصر من الولايات المتحدة الأمريكية في مجالي التعليم والصحة، من خلال تشجيع الإدارة الأمريكية على توفير بعثات مجانية للشباب وصغار التكنوقراط لتبادل الخبرات، وفقاً لما تحتاجه مصر وليس وفقاً لما تقرره السياسة الأمريكية وفق مصالحها كما هو الحال في أغلب البعثات التي تتم الآن. 
ولا ننسى طبعاً، الدور الدبلوماسي الذي تستطيع أمريكا لعبه بالنيابة عن مصر في المحافل الدولية، لا سيما تلك المعنية بحقوق الإنسان والتحول الديمقراطي، أي أننا نستطيع بمجهود بسيط وتواصل أكبر أن نحول أمريكا من متصيد ومترصد إلى حليف متفهم وداعم دولي لمواقفنا ومدافعاً عنها أيضاً.

إن الفرصة متاحة الآن أكثر من أي وقت مضى لاستعادة علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية على أساس من الندية وتبادل المصالح، كل ما علينا فقط هو حسن استغلالها دون تأخير أو مكابرة.