حاول جاهدا أن يقاوم لكن دون فائدة، كانوا جميعا أقوى منه.. يدفعونه و يضربونه دون أدنى رحمة إلى طريق لا يراه، فقد تعمدوا عصب عينيه برباط غليظ حتى لا يتعرف على الوجهة التي يزجون به إليها. و فجأة فكوا العصبة، و وجد نفسه وحيدا في غرفة مظلمة.
بين الحين و الآخر كانت تتسلل إليه أصوات المارين في الشارع و السيارات هناك. حاول أن يصرخ لينبههم بوجوده في هذا المكان الموحش عسى أن يرق قلب أحدهم و يأتي لتخليصه.. لكنه لم يكن يتلقى إلا ضحكات و كأنهم جميعا سعداء بوضعه هذا، أخذ يدور في المكان و نسي تماما أن قدمه اليسرى مكسورة منذ عدة أيام، كان همه الأول و الأخير هو كسر الحوائط الفولاذية التي أعدت خصيصا لإحباط كل محاولاته في الخلاص.. حتى أنهكه التعب أخيرا و خر راكعا على الأرض يتوسل إلى ربه أن يرسل له ببصيص نور، أو أي شيء يفسر له ما الذي أتى به إلى هنا، توسل إلى ربه أن يغفر له أي ذنب أرتكبه ليجد نفسه هنا.. و تمنى على الله الخلاص..
و يبدو أن السماء استجابت! فانفتح الباب و دخل رجل متوسط القامة إليه، لكنه لم يستطع تبين ملامحمه بسبب ضعف الإضاءة الشديد, دخل الرجل و قدم له الطعام و خرج فورا، حاول أن يخرج وراءه فلكزه بعصا خشنة في صدره أردته على الأرض خائر القوى. استعاد قوته ووقف من جديد و هم أن يسأل لكن الرجل كان قد رحل و الباب قد أغلق و الظلام قد عاد..
كان جائعا لحد الهوس فتوقف عن التفكير و أنقض على الطعام يلتهمه حتى شبع و كاد النوم أن يغالبه.. لكنه أبى دون أن ينام، قاوم النوم كما اعتاد أن يقاوم كل شيء يُفرض عليه في حياته! فهو متمرد بطبعه. على الرغم من صغر سنه نسبيا، كان يتزعم حركة ضد القائد – قائد القطيع الذي كان يأويه – كان لا يجد أي منطق يبرر خضوعه لقائد فرض وجوده على القطيع بالقوة – قوة الجسد – وليس الكفاءة.
فكر لحظات و اكتشف أنه ربما هذا هو السبب الذي أتى به إلى هنا، فهو يعاني الويل منذ أن قرر التمرد على القائد، بدأت الويلات منذ أسبوعين حين تزوج القائد – ظلما و بهتانا – من حبيبته الوحيدة على الرغم من أنه متزوج من ثماني غيرها.. في الحقيقة، هو يعلم جيدا أن القائد فعل هذا ليس رغبة في الزواج و لكن رغبة في إذلاله و هذا ما أضطره إلى الدخول معه في عراك عنيف – غير متكافيء - أنتهى بإصابته بكسر مؤلم في رجله اليسرى.. إلا أن شعوره بالظلم كان مؤلم ألف مرة أكثر.
و عند هذه اللحظة شعر أن السماء تعاطفت معه من جديد و ألقت إليه بالتفسير المنطقي لمعاناته الحالية.. لابد أن ما يعانيه الآن ما هو إلا عقابا جديدا على تمرده، ربما قرر قائد القطيع حبسه حتى يريح رأسه من الاعتصامات و الاحتجاجات و المظاهرات التي شنها صاحبنا ضده مؤخرا.. فتعاظم إحساسه بالظلم و أشتدت رغبته في المقاومة فقام يصرخ و يهلل في قوم لا يسمع و يحاول كسر الحوائط التي لا تنكسر، حتى سقط فاقدا للوعي..
لم يدر بنفسه إلا في اليوم التالي و أشعة الشمس القوية تخترق الثقوب الصغيرة التي أحدثها أمس في الحائط، أنتشى و أزداد أمله في الخلاص.. و راح يستعد لاستئناف ما بدأه ليلة أمس، و بعد أن شحذ همته و قبل أن يبدأ في موصلة النضال.. فتح الرجل متوسط القامة الباب و دخل عليه، مد يده إليه في حنان بالغ و ساعده على النهوض ثم أخذه و خرجا معا من الباب في هدوء.. كان مذهولا .. مندهشا .. و غير قادر على الفهم!
هبطا درجات السلم، حتى وصلا إلى حشد كبير من الرجال يرتدون جلاليب بيضاء و تعلو وجوههم ابتسامة حانية و كأنهم الملائكة، لم يصدق أن كل هؤلاء يقفون بانتظاره هو، و تبادر إلى ذهنه أن القائد ربما قد مات و أنهم قرروا أن يكون هو القائد الجديد و من ثم أعدوا له هذا الاحتفال المهيب لتنصيبه على عرش القطيع ...
دخل بينهم مزهوا و مذهولا أيضا و قبل أن يفتح فمه ليسأل أنقض عليه أحدهم بسكين ضخم فقطع عنقه و تدفق الدم و خر صاحبنا على الأرض – دون مقاومة هذه المرة – و قبل أن يغمض عينيه بلا أمل في فتحهما من جديد.. نظر إلى الفرحة المرسومة على وجوههم و رأي القائد – قائد القطيع – يتقدم إلى الاحتفال المهيب مع نفس الرجل متوسط القامة و أدرك أن قائد القطيع لا ذنب له في معاناة الليلة السابقة و أنهما يواجهان معا الآن نفس المصير، و أن قدرهما قد ألقى بهما في يد من يرون في إهدار دمائهما سببا وجيها للاحتفال!