في قصر الشاطئ في أبو ظبي، في اليوم الأخير من شهر مايو، جلس رئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، مع وزير دفاع تركيا، خلوصي أكار، للتحدث وجهاً لوجه لأول مرة. كلاهما زعيم سياسي محنك صاحب خلفية عسكرية حافلة، ولكل منهما دور محوري في الأنشطة السياسية والعسكرية التي تقودها كل من بلادهما في كافة النزاعات الدبلوماسية والمسلحة التي تعج بها منطقة الشرق الأوسط، وإن كانا دائماً على طرفي نقيض بشأن كل منها، بدءً من ليبيا في شمال إفريقيا إلى سوريا والعراق في منطقة الشام، وحتى في أفغانستان.
قد لا يضيف هذا الاجتماع الهام فوائد جديدة للعلاقة الثنائية بين تركيا والإمارات، والتي عادت مؤخراً من خلال عملية مصالحة متسرعة مدفوعة بالتحديات الأمنية والاقتصادية المتفاقمة التي تواجه المنطقة. لكن ما من شك أن تأثير الاجتماع بين هذين الاستراتيجيين العسكريين الماهرين، سيمثل علامة فارقة في عملية تشكيل الشرق الأوسط الجديد الجارية بالفعل منذ فترة، من خلال تحفيز سلسلة من التغييرات الاستراتيجية في مناطق الصراع المسلح بالمنطقة، خصوصاً تلك التي ينشط فيها كل من تركيا والإمارات ضد بعضهما. على الأرجح، سيكون شمال سوريا هو المكان الأول الذي سيظهر فيه هذا التغيير في المواقف، على الأقل من جانب الإمارات.
حسب تصريحات وزير الدفاع التركي، فإن رئيس الأركان الإماراتي سيزور رئيس الأركان التركي في أنقرة، في المستقبل القريب، لبحث الجوانب الفنية لبدء برنامج التعاون العسكري والتدريب بين البلدين. منذ إعلان المصالحة بين الإمارات وتركيا، في نوفمبر ٢٠٢١، لم تخف الإمارات حرصها على عقد صفقات دفاعية مع الجانب التركي، على غرار الاتفاقات العسكرية المبرمة بين تركيا وقطر، وكانت على مدار السنوات القليلة الماضية سبباً رئيسياً في تطوير قدرات الجيش القطري وتأهيل أفراده.
في السابع من ديسمبر ٢٠٢١، بينما كان الرئيس التركي أردوغان وكبار وزرائه في قطر لإجراء محادثات استراتيجية، زار وفد إماراتي أنقرة للتفاوض على صفقات دفاعية، تضمنت عروضاً لشراء أسهم في شركة أسيلسان، وهي الشركة الوطنية الرائدة في صناعة الدفاع الإلكتروني في تركيا. وقد كانت شركة أسيلسان قد افتتحت فرعاً لها في الدوحة، في يناير ٢٠٢١، لأول مرة في أي دولة عربية، كجزء من الاتفاقية العسكرية بين قطر وتركيا. لكن في النهاية، عاد الوفد الإماراتي خالي الوفاض، حيث لم تؤد المفاوضات إلى أي نتائج إيجابية، والسبب الرئيسي في ذلك كان أنه رغم تحسن العلاقات بين البلدين سياسياً واقتصادياً، كان التنافس بين أبو ظبي وأنقرة، على المستوى العسكري والاستراتيجي، لا يزال قائمًا.
لذلك، لم يكن غريباً أن نعرف أن أحد أهم الأهداف وراء دعوة الإمارات، وزير الدفاع التركي لزيارة الإمارات ولقاء الرئيس محمد بن زايد، هو حل هذا التوتر مع خلوصي أكار. في الإحاطة الإعلامية التي أدلى بها خلوصي أكار بمقر السفارة التركية في أبو ظبي قبل عودته إلى أنقرة، ألمح وزير الدفاع التركي إلى أن الرئيس الإماراتي محمد بن زايد لن يعارض العملية العسكرية التي تخطط تركيا لإطلاقها في شمال سوريا في الفترة المقبلة، على الرغم من حقيقة أن الإمارات كانت دائمًا واحدة من أقوى الداعمين الإقليميين للتنظيمات الكردية في شمال سوريا والعراق، وكثيراً ما دعمت مواقفهم ضد تركيا.
تعليقاً على ذلك، قال خلوصي أكار: "لقد أتيحت لنا الفرصة لعرض أعمالنا على رئيس دولة الإمارات الذي رحب بنا بلطف وإخلاص كبيرين. لقد سررنا أن نرى أن [الشيخ محمد بن زايد] يوافق على المعلومات والتقييم الذي قدمناه" وأشار خلوصي أكار في إيجاز أن "رئيس دولة الإمارات قد أعرب عن دعمه للعمل الذي قمنا به والتقدم المحرز في هذا المجال".
إن الهدف من العملية العسكرية التي أعلن عنها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مطلع شهر مايو، هو عمل منطقة أسماها "ممر آمن" بعمق ٣٠ كيلومترًا داخل شمال سوريا والعراق، على الحدود الجنوبية لتركيا. تأتي هذه العملية التي أسموها عسكريا بـ "مخلب القفل" ضمن العمليات العسكرية التي يقودها الجيش التركي في شمال سوريا والعراق منذ فترة لمطاردة عناصر وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني المختبئين في المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد هناك. ولا زالت تركيا مصممة على القيام بالعملية رغم اعتراض العديد من صانعي السياسات الإقليميين والدوليين واعتبارهم لها بمثابة اعتداء على سيادة سوريا والعراق من شأنه إلحاق الضرر بالمدنيين الأبرياء الذين يعيشون في هذه المناطق.
في كلمته المسجلة على الفيديو من أبو ظبي، اعتبر الوزير التركي، خلوصي أكار، أن إقامة "الممر الآمن" هو الوسيلة الوحيدة لمنع الإرهابيين في هذه المنطقة من إقامة "ممر إرهابي" يهدد أمن تركيا. "هدفنا الوحيد هو الإرهابيون. الأكراد والعرب إخواننا. لا يزال بعض الناس يخلطون الأمر، إما عن جهل أو لدوافع خفية. هدفنا الوحيد هو الإرهابيين. حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب إرهابيون"، وأضاف آكار "هدفنا الوحيد من هذه الأنشطة هو ضمان أمن حدود تركيا. لن نسمح ببناء ممر إرهابي هناك ... أريد أن يعرف الجميع أن جيشنا مصمم وقادر على تحقيق ذلك."
أما بالنسبة للإمارات، يأتي الموقف الإماراتي المتغير من أنشطة الجيش التركي في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا والعراق، ضمن السياسة الجديدة التي تنتهجها الإمارات تجاه المنطقة منذ فترة. حيث يبدو أن صانع القرار الإماراتي يرى أن من مصلحة الإمارات بناء علاقات قوية مع الدول غير العربية في الشرق الأوسط - تركيا وإسرائيل وإيران – والاستفادة من مواقعهم وامكاناتهم الاستراتيجية الكبيرة، بدلاً من الاستمرار في القتال ضدها نيابة عن الدول العربية المتأثرة بتدخلاتهم في شئونها. لا يقتصر ذلك على منطقة الشام فقط. بل من المرجح جداً الفترة القادمة، أن نرى الإمارات تسحب نفسها من ملف الصراع في ليبيا، على الأقل لتتجنب تجديد المواجهة مع القيادة العسكرية التركية، والتي ستنقل قواتها بالتأكيد إلى ليبيا بمجرد الانتهاء من عملية الممر الآمن في سوريا.