يصادف هذا الشهر ذكرى إبرام معاهدة السلام الإسرائيلية-المصرية، وهي اتفاقية محورية والأولى من نوعها، حيث جمعت الدولتان علاقات دبلوماسية منذ إبرامها قبل 40 عامًا، وصمدت الاتفاقية رغم التجارب والتحديات، وما زالت تمثل بارقة أمل في وقت يبدو فيه تحقيق السلام في المنطقة أمر صعب وبعيد المنال، فقد كشف إعلان إدارة ترامب عن خطة السلام في 28 كانون الثاني/يناير عن المواقف المحبطة إزاء المحاولات السابقة بشأن قضية السلام، وأهمها التعنت السياسي المتواصل وانعدام الثقة المتنامي بين الأطراف المعنية، إذ لاقت خطة السلام معارضة كبيرة من طرفي النزاع حتى قبل الإعلان عنها رسميًا، رغم احتواء خطة السلام، في معظمها، على بنود هامة يمكن أن تعيد الإسرائيليين والفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات.
انتظر المصريون، تمامًا كالإسرائيليين والفلسطينيين، بفارغ صبر الإعلان عن خطة ترامب للسلام، وعندما تمّ كشف النقاب عن خطة إدارة ترامب للسلام بالكامل مطلع العام، ارتاح المصريون لمعرفة أن هذه الخطة لم تشمل التخلي عن قسم من سيناء لصالح قطاع غزة، على عكس ما أشاعته قناة "الجزيرة" وغيرها من وسائل الإعلام الممولة من قطر قبل الإعلان عن الخطة.
لقد أثر الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على سياسات مصر المحلية والخارجية لعقود من الزمن، مثلاً كان نظام الرئيس السابق حسني مبارك، يستخدم الخطاب الإعلامي عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لتشتيت المواطنين عن التحديات الاجتماعية والسياسية التي تواجهها مصر في الداخل، وكانت وسائل الإعلام المحلية المملوكة للدولة والمنابر الإعلامية شبه المستقلة، آنذاك، لا تتوقف عن بث الأخبار ومقاطع الفيديو التي كانت تبرز صورة إسرائيل على أنها عدو مصر اللدود، رغم اتفاقية السلام بين البلدين، غير أن هذه الرسائل أعطت نتائج عكسية في 2011 حين بدأت شرارة الثورة.
وعلى نطاق أشمل سوف يتيح التوصل إلى اتفاق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين لصناع القرار السياسي في مصر التركيز على مسائل أكثر أهمية بالنسبة للمصريين، ويمكنهم من بذل جهود أكبر لتبديد مخاوف المصريين بشأن الأوضاع الداخلية، بدلًا من التركيز على الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، كما أنه سيمنح الدولة المصرية مساحة كافية لتحرير نفسها من بعض الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتعزيز أمنها القومي.
يركز منتقدي خطة السلام على عجز المبادرات السابقة عن وضع حدّ للصراع الممتد منذ سبعة عقود، ويتحدثون عن توقيت إعلان خطة لسلام باعتباره مجرد خطوة سياسية تهدف إلى مساعدة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في انتخابات آذار/مارس. لكن التفسيرات المحيطة بتوقيت الإعلان، لا يجب أن تحجب عن أعيننا حقيقة أن خطة السلام انتهجت مقاربة مثيرة للاهتمام حملت رؤية مختلفة لمجريات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، حيث تعد خطة السلام التي اقترحتها إدارة ترامب واحدة من المبادرات القليلة التي تقر بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وتفتح قنوات التعاون المباشر على الصعيدين الاقتصادي والأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ويبدو أن ما يميّز هذه الخطة عن ما سبقها من مبادرات، هو أنها أُعدت بواسطة قيادة شابة تحمل رؤية مختلفة عن الصيغ السابقة، فقد عمل كبير مستشاري البيت الأبيض جاريد كوشنر لمدة ثلاثة سنوات للتوصل إلى حل غير مألوف وقابل للتطبيق، وهذا يلفت نظرنا إلى أن القيادات المسؤولين عن تحقيق أي خطة سلام هم الضمانة الرئيسية والضرورية لإنجاحها.
فقد بين لنا التاريخ أن اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل، مثلاً، لم يكن ممكنًا لولا رغبة الرئيس المصري السابق أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق مناحيم بيغن في تحدي الوضع القائم آنذاك، لكن بخلاف ما حدث في عام 1979، فإن القادة الضروري تواجدهم لتحقيق خطة السلام التي اقترحتها إدارة ترامب أو حتى التفاوض بشأنها غائبين عن صفوف القيادة الفلسطينية الحالية، التي أعلنت عن رفضها الجلوس على طاولة المفاوضات ورفضت الخطة حتى قبل الإعلان عنها، وهذا قد أصاب الخطة بحالة من التجمد، لأنه لا يمكن تطبيقها من طرف واحد على غرار الموقف الأحادي السابق للرئيس ترامب حين اعترف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، بل يتطلب تنفيذ خطة السلام، تلك أو غيرها، حضور وموافقة كافة الأطراف المعنية.
وهنا تجدر الإشارة إلى تناقض ردود كل من الإسرائيليين والفلسطينيين على خطة السلام. فمن جهة، أدرك القادة الإسرائيليون أنه بهدف التوصل إلى اتفاق، عليهم تقديم تنازلات عن بعض المقاطعات وتقديم الخدمات الأمنية المحلية والقومية إلى الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني على السواء. بينما من جهة أخرى، رفض القادة الفلسطينيون الخطة، من دون تفكير أو مراجعة، متجاهلين الفرصة المتاحة أمام شعبهم لجني فوائدها سواء على صعيد الأرض أو المشاريع الاقتصادية. ولم ترفض القيادة الفلسطينية الخطة فقط لأنها لا تخدم المصالح المباشرة للنخبة السياسية في "فتح" و"حماس"، والتي لا تتفق مع مصالح العديد من الفلسطينيين، بل أيضًا بسبب المزايدات السياسية التي تؤججها الانقسامات الحادة بين النخبة السياسية فيما بينها، وبين القيادة وعامة الشعب.
فلو أن "فتح" و"حماس" لم يستطيعا الاتفاق بشأن تنسيق التعاون فيما بينهما في حكم غزة والضفة الغربية، فمن البديهي أنه سيتعذر عليهما حتماً التفاوض بشأن خطة سلام مع إسرائيل، خصوصاً لو كان تنفيذها يتطلب التعاون مع الإسرائيليين في كثير من الملفات الأمنية والاقتصادية، فحركة "حماس" تعتبر إسرائيل عدوها الديني، أما قيادات حركة "فتح"، التي تعنى أكثر بالشؤون السياسية وتتعاون مع الحكومة الإسرائيلية بشكل محدود عبر الضفة الغربية، لا تزال تصف إسرائيل على أنها "المحتل الصهيوني" الذي "يجب إزالته من الأراضي المقدسة". وليس من المنطقي في ظل هذا الخطاب العدائي، المبني على أسس عقائدية دينية وقومية، أن نتخيل أن تقبل "فتح" أو "حماس" بالتعايش في سلام مع إسرائيل، تحت أي بند.
وفي نفس الصدد، فإن اقتراح خطة السلام تجريد "حماس" من سلاحها، والاعتقاد بأن حماس ستوافق طوعًا على ذلك، وتتوقف عن توجيه هجمات عسكرية ضد إسرائيل، هو أمر مثالي جداً يستحيل تخيل تحقيقه في الواقع، كما أن "حماس" تعتمد في تقوية نفوذها السياسي من خلال تضخيم نقاط ضعف "فتح" الأمنية والدعم السخي الذي تقدمه لها قطر وإيران مقابل الاستمرار في ممارسة أنشطتها العنيفة، ومن ثم فإن مطالبة "حماس" بتسليم سلاحها والإذعان لقوات الأمن الإسرائيلية والتعاون معها يشبه مطالبة العقارب التوقف عن اللدغ وحقن السم، ولا يجدر بالولايات المتحدة وإسرائيل والقادة العرب الثقة في حركة "حماس"، لا سيما مع قياسات الرأي التي تشير إلى تصاعد شعبيتها في غزة والضفة الغربية.
والآن، لا يعتبر تحديد إطار زمني من أربع سنوات أمام القيادة الفلسطينية للبدء بالمفاوضات أمر واقعي، حيث لا يمكن لخطة السلام أن تظل عالقة حتى تغير القيادة الفلسطينية الحالية رأيها، بل يجب النظر للأمر بزاوية معاكسة، وهو ضرورة تغيير القيادة لفلسطينية واستحضار قيادات جديدة أكثر انفتاحًا على التفاوض من أجل تحقيق سلام فاعل ودائم مع إسرائيل. وهو أمر يجب أن تهتم به كافة الجهات الدولية الفاعلة، ومراكز الفكر وصناع القرار في الولايات المتحدة والشرق الأوسط في إيجاد حل مناسب له. وربما تكون الانتخابات الفلسطينية للرئاسة و"المجلس التشريعي الفلسطيني" المزمع إجراؤها في العام 2020، إن عُقدت، نقطة انطلاق جيدة لتمكين أصوات جديدة أكثر اعتدالًا من خارج ثنائية "فتح-حماس" من الوصول لرأس الحكومة الفلسطينية.
ولكن بما إن إجراء الانتخابات الفلسطينية أصبح أمر مستبعد إلى حدّ كبير بعد الإعلان عن خطة ترامب للسلام، يجب النظر في دعوة الإسرائيليين العرب، لا سيما أولئك الذين يتولون مناصب في الكنيست أو غيرها من المناصب الرفيعة في الحكومة الإسرائيلية، للقيام بدور مؤثر في إحداث التغيير المطلوب في القيادة الفلسطينية، من خلال البدء بإقامة علاقات مع الجماعات السياسية الفلسطينية الليبرالية والمعتدلة، والتعاون معهم في تثقيف عامة الفلسطينيين، وأصحاب الأصوات المؤثرة سياسياً، من أجل نزع الشرعية عن قيادة "فتح-حماس" الحالية، عبر تمكين الشعب الفلسطيني من التصويت لصالح قادة يميلون نحو السلام بما يعزز احتمال التوصل إلى اتفاق دائم بين كافة الأطراف.
وبالتوازي مع ذلك، لا بدّ من إرغام "حماس" على نزع سلاحها والتخلي عن ميليشياتها المسلحة في غزة، كما يجدر بالولايات المتحدة الضغط على قطر، إحدى أقرب حلفاء حماس، لوقف تمويل الحركة وغيرها من التنظيمات الإرهابية في قطاع غزة، كما يجب أن يعلن المجتمع الدولي إدانته للمواقف الداعمة لاستخدام العنف للاعتراض على خطة السلام، ليس فقط لحماية مصالح الإسرائيليين، بل الفلسطينيين أيضًا.
نشر أولاً على منتدى فكرة، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى