إن توفير الرعاية الصحية للمواطنين هو حق أساسي لكل مواطن في البلد التي ينتمي لها، والحكومات ملزمة بذلك بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث يعني الحق في الصحة "الحق في الحصول على الرعاية الصحية المقبولة والميسورة التكلفة ذات الجودة المناسبة في التوقيت المناسب."
وبالنظر إلى الكيفية التي تعاملت بها الدولة المصرية، ممثلة في المجهود الضخم بين وزارة الصحة ووزارة الخارجية، مع أزمة فيروس كورونا في مقابل دول العالم الأخرى، سنشعر حتماً بالفخر. ففي الوقت الذي أعلنت فيه كوريا الشمالية عن إعدام أي مواطن مشتبه بإصابته بالفيروس، وأضطر المواطنون الأمريكيون والأوروبيون لدفع تكلفة سفرهم وفترة العزل بعد وصولهم لبلادهم، فقد تحملت الدولة المصرية كافة تكاليف وإجراءات إخلاء المصريين من بؤرة المرض في الصين إلى مدينة العلمين في مصر، حيث يقيمون في مراكز طبية مجهزة لاستضافتهم مجاناً لمدة أسبوعين هي فترة حضانة الفيروس للتأكد من سلامتهم وقدرتهم على العودة للانخراط في الأنشطة الاجتماعية العادية.
إن الطريقة الاحترافية التي تعاملت بها الدولة المصرية مع أزمة إخلاء المصريين العالقين في مدينة ووهان الصينية، الموبوءة بفيروس كورونا المستجد، تستحق أن نتوقف أمامها طويلاً، فهذه الأزمة هي بمثابة تتويج لبداية عهد جديد في العلاقة ما بين الدولة والمواطن، من حيث توفير وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي كاد المصريون ينسون أنها حقوق أساسية لهم.
بالأمس القريب لم تكن الجنسية المصرية تضيف لحاملها أي ميزة تذكر في أي بلد حول العالم، وكان المصريون يسعون إلى فرص الحصول على جنسية موازية توفر لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة التي يفتقدون إليها في موطنهم الأصلي، وكان الموت غرقاً خبراً متكرراً باستمرار عن شباب لجأوا للهجرة بطرق غير شرعية بحثاً عن كرامتهم على الشاطئ الآخر.
قبل ثلاثة أعوام، كنت قد كتبت مقالا أواسي فيه نفسي وكثيرون من أبناء وطني من أثر ما فعلته بنا الأوقات الصعبة التي مررنا بها في اتجاه تحقيق واستكمال مسار الإصلاح الاقتصادي، الذي كانت الدولة المصرية قد بدأته منذ ٢٠١٦، وتطلب إجراءات قاسية نسبياً على المصريين مثل عملية الإلغاء التدريجي لمنظومة الدعم، من أجل أن تتمكن الدولة من زيادة مواردها من أجل توفير الخدمات الأساسية للمواطنين بجودة تضمن لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
فبالرغم من أن منظومة الدعم القديمة كانت تغطي أغلب الخدمات الأساسية، إلا أن هذه الخدمات كانت سيئة للغاية من حيث جودتها وسهولة الحصول عليها، وبالتالي كان المواطن الموهوم بالثراء بسبب قدرته الشرائية العالية كان يتكبد الكثير من المصروفات الضائعة والوقت المهدر في سبيل الحصول على نفس الخدمات بجودة أفضل قليلاً من مصادر استثمارية، أو يضطر لدفع رشاوي للحصول عليها من خلال الموظفين الفاسدين الذين عينتهم الدولة لتقديم هذه الخدمات. كان هذا هو حال المواطن المصري ابن الطبقة الوسطى لعقود طويلة تحت حكم مبارك، الذي اعتمد على تقديم جرعات "تخديرية" عبر منظومة دعم فاشلة وفاسدة، للحفاظ على حالة وهمية من الاستقرار الهش داخل البلاد.
لهذا فقد كنت أتساءل في المقال المشار إليه، مثلي في ذلك مثل كثير من المصريين، عن إذا ما كان الأفضل أن تعيش كمواطن غني في دولة فقيرة وفاسدة، أم أن تعيش كمواطن فقير في دولة غنية تحترم آدميتي كمواطن وتكافح الفساد لتضمن لي حقي في عيش كريم. لم أكن أتوقع أن تأتي الإجابة على هذا السؤال الصعب بهذه السرعة.
خلال أقل من أربعة سنوات، شهدت مصر طفرة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد حدث تطور هائل على مستوى البنية التحتية، وتم القضاء على أغلب المناطق العشوائية الخطرة ونقل سكانها إلى مدن سكنية آدمية تتوفر فيها كافة سبل الحياة الكريمة، وحدث تغير واضح في مستوى وجودة الخدمات المقدمة للمواطن وأصبح الحصول على هذه الخدمات أمر ميسر للجميع، خصوصاً فيما يتعلق بالخدمات الصحية والتعليمية، والمرافق العامة مثل المياه والكهرباء وحتى مصادر المواد الغذائية الأساسية، فضلاً على النجاح المذهل للدولة في تحقيق الاستقرار السياسي ودعم القوة العسكرية في إقليم يعتبر فيه الاستقرار والأمن رفاهية بعيدة المنال.
وقد حدث ذلك التطور الهائل في الوقت الذي قامت فيه الدولة بإلغاء منظومة الدعم، وهو ما كنا نظن أنه سيجعل حياتنا أصعب، ولكن في الحقيقة كان عملية جراحية مهمة لفتح أعيننا على واقع جديد في علاقتنا كمواطنين مع الدولة، واقع جديد نستطيع فيه التمتع بحقوقنا الأساسية لأنها حقوق لنا وليس لأنها منحة تتصدق بها الدولة على المواطن من خلال منظومة كاذبة اسمها منظومة الدعم، تتلاعب باحتياجاته من أجل أن تسلب حقوقه وحريته.
ما زال أمامنا رحلة طويلة لاستكمال طريق بناء حياة كريمة للمواطن المصري، لكن على الأقل أصبحنا نعلم الآن أننا على الطريق الصحيح، وأننا أخيراً قد خرجنا من مرحلة النفق المظلم حيث الخوف من المستقبل وعدم الثقة في أن الغد سيكون أفضل، إلى الأفق المفتوح والممتد عبر طموحات لا نهاية لها، وأصبحت الرؤية نحو المستقبل واضحة لا تقبل تشكيك المغرضين كما الشمس، وصارت التحديات أيضاً أهدافاً أوضح وأسهل في إصابتها وتجاوزها. إن حالنا كمصريين أفضل بكثير جداً مما نظن.