Wednesday, September 04, 2019

تونس: لمن الرئاسة اليوم؟



أيام قليلة تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية المستعجلة في تونس، والتي تقرر عقدها أيام ١٣ إلى ١٥ سبتمبر، وقد بدأ المرشحون الذين وافقت عليهم الهيئة العليا للانتخابات حملاتهم الانتخابية منذ بداية الشهر، والبالغ عددهم ستة وعشرين مرشحاً، منهم المرأة والشباب ورجال السياسة المخضرمين، وكبار الشخصيات في الحكومة. 

إلا أن أهم المرشحين في هذه المنافسة الهادئة حتى الآن هما: مرشح الإسلاميين الأبرز، الشيخ عبد الفتاح مورو، أو "العصفور النادر" بحسب وصف رفيق عمره راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة الإخواني، وعبد الكريم الزبيدي، وزير الدفاع في دولة السبسي، والذي يتمتع بخبرة سياسية وبيروقراطية كبيرة، وله تاريخ طويل من المواقف الحاسمة تجاه الفكر المتطرف وجماعات الإسلام السياسي.

وكأن مشهد الانتخابات الحالية في تونس هو تكرار بشيء من الابتكار، وعلى أرضية ديمقراطية، لنفس مشاهد الصراعات التي رأيناها في منطقة الشرق الأوسط، منذ ثورات الربيع العربي، بين محاولات البيروقراطيين الحفاظ على تماسك واستمرار الدولة الوطنية في مقابل محاولات الإسلاميين التسلق على سلالم الديمقراطية لهدم الدولة المدنية وإقامة نظام الخلافة وفق قواعد الشريعة الإسلامية.

فمن سيكسب جولة الصراع الحالية في تونس بين الدولة الوطنية العلمانية وأحلام الخلافة الإسلامية؟ 

بدايةً فإن العدد الكبير للمرشحين، والذي قد يحتفي به البعض كانعكاس للمناخ الديمقراطي الصحي، فإنه في الحقيقة لا يبشر بخير بالنسبة لمؤيدي الحركة المدنية أو العلمانية في تونس. فمن بين سبعة وتسعين تقدموا بأوراقهم تم قبول ستة وعشرين مرشح بشكل نهائي، عدد المتقدمين كبير جداً وعدد المرشحين النهائيين كبير جداً أيضاً، بالنسبة لدولة صغيرة نسبياً من حيث عدد السكان الذي لا يتجاوز العشرة ملايين نسمة، ويتمتع بتناسق ديمغرافي من حيث الخلفيات الدينية والثقافية والاجتماعية لعموم الشعب. 

وهذا العدد الكبير للمرشحين لمنصب الرئاسة يعكس تفكك في النخبة السياسية، وتناحر قائم على النزعات النرجسية لدى كل مرشح والحزب الذي يمثله في مقابل المرشحين الآخرين، وربما يؤدي ذلك إلى تفتت الأصوات بين مؤيدي التيار العلماني، في مقابل مؤيدي التيار الإسلامي الذين يكونون أكثر تماسكاً في عمليات التصويت، بحسب أوامر مرشدهم الأعلى، بغض النظر عن وجود أكثر من مرشح يمثلهم أو متحالف معهم. 

كما أن مؤيدي التيار العلماني أنفسهم، وبرغم درجة وعيهم الكبيرة واتساع نشاطهم السياسي، يخشى عليهم الوقوع في فخ التصويت لبعض المرشحين بشكل عاطفي بناء على ما يؤمنون به من قيم حقوقية وليس بناء على تحليل سياسي معمق لمن هو الأصلح والأكفأ، بمعنى أنه ربما تذهب كثير من الأصوات للمرشحتين السيدتين فقط من باب الانتصار لحقوق المرأة، أو للمرشح الشاب فقط من باب دعم وجود الشباب في العمل السياسي أو رفضاً للعجائز الذين ما زالوا يحتلون صدارة المشهد السياسي منذ عهد بن علي، وليس لأن أي منهم يمتلك الكفاءة والمؤهلات المناسبة لمنصب الرئيس، وهذا بالتأكيد سيفتت أصوات مؤيدي التيار العلماني ويضعف من فرص المرشحين العلمانيين في مقابل المرشحين الإسلاميين أو المتحالفين معهم. 

يزداد هذا التخوف إذا ما نظرنا إلى برامج المرشحين، والتي تتطابق جميعها رغم اختلاف توجهاتهم السياسية، حيث تتلخص جميع البرامج في نقطتين: تحسين الوضع الاقتصادي المتردي والارتقاء بالمكانة الدولية لتونس، وهي في حقيقتها – كما يعلم أغلب التونسيون – لا تتجاوز كونها وعود وردية جوفاء لن يستطيع أي من المرشحين تحقيقها في حال فوزه، والسبب ليس فقط أن هذه المشاريع التي يتغنون بها تحتاج استثمارات وموارد هائلة لا تمتلكها الدولة التونسية التي تعتمد على القروض الخارجية في إدارة شئونها، ولكن أيضاً لأن النظام السياسي المعمول به حالياً في تونس لا يجعل من رئيس الدولة صاحب قرار مستقل يستطيع به قيادة البلاد في اتجاه معين دون معارضة أو مقاومة من السلطات الأخرى. 

إذ أنه خشية تكرار الحقبة الديكتاتورية التي غرقت فيها البلاد لعقود، فإن نظام الحكم في تونس، وفقاً للدستور القائم، ليس نظاماً رئاسياً، وليس حتى نظاماً برلمانياً، بل هو نظام قائم على تحقيق التوازن بين ثلاث سلطات أو "رئاسات" كما يسمونها، رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان، وهذا يعني أنه حتى لو حصل حزب معين على رئاسة الدولة في هذه الانتخابات فإنه من باب تحقيق التوازن السياسي وفق هذا النظام، سيجد نفسه مضطراً للتعامل مع رئيس برلمان ورئيس حكومة من أحزاب أخرى ربما تحمل عقيدة سياسية ورؤية حزبية ليست فقط مختلفة معه كرئيس دولة، بل متنافرة، وهذا وإن كان يعكس صورة مثالية لتحقيق الديمقراطية التمثيلية على الورق، إلا أنه في الواقع العملي يجعل مسألة إدارة البلاد أمر في غاية الصعوبة، بل ربما يشكل عائقاً عن إحداث أي تقدم يذكر في أجندات حيوية مثل الاقتصاد والعلاقات الدولية. 

ولأن الشعب التونسي المثقف يعلم خطورة هذا الأمر، فإن اختياره حتماً لن يعتمد على البرامج الخادعة التي يسوقها المرشحين في خطابات منمقة، ولكن سيكون الاختيار بناء على الخلفية السياسية وتاريخ كل مرشح بشخصه وبصفته الحزبية، وليس ما يقدمه المرشح أو يعد به الآن ضمن حملته الانتخابية. 

وبالنظر لأسماء المرشحين، وخلفياتهم السياسية، فيبدو أن الدكتور عبد الكريم الزبيدي هو الأقرب للفوز، نظراً لنزاهة تاريخه الشخصي وخبرته السياسية والبيروقراطية الطويلة، فضلاً على عمله كوزير للدفاع والذي جعله جزء من المؤسسة العسكرية التي تحظى بحب واحترام كبير داخل تونس، خصوصاً بعد موقفهم الداعم للشعب وقت الثورة على نظام بن علي ورفضهم أوامر النظام بقتل المتظاهرين آنذاك. 

حتى أن عودة الشيخ مورو لتجميل وجه حزب النهضة وإعادة طرح أجندة الإسلاميين بشكل أكثر اعتدالاً، كي يستطيع الحزب أن يسقيه كالسم في العسل للشعب التونسي، لن تستطيع أن تمحو تاريخ الحركة الإسلامية التي تتآكل شعبيتها في الشارع السياسي بشكل ملحوظ منذ دخولهم معترك السياسة بكل ثقلهم في ٢٠١١. 

كما أن أغلب المرشحين العلمانيين الآخرين بما فيهم كبار الموظفين في الحكومة الحالية، كانت لهم تحالفات معلنة مع حركة النهضة الإخوانية، مما سيضعف من رصيدهم لدى الشعب، بما في ذلك يوسف الشاهد رئيس الحكومة في ظل دولة السبسي والذي تنازل عن رئاسة الوزراء لوزير الخارجية السابق في عهد بن علي لكي يستطيع تقديم أوراقه للترشح على منصب الرئيس بعد موت السبسي، في مشهد أفزع الكثير من التونسيون الذين ثاروا على ديكتاتورية بن علي. 

المؤكد أن تونس لن تعود للوراء ولن يقبل الشعب التونسي بحكم ديكتاتوري جديد، ولكن التوحد وراء مرشح مدني أمر في غاية الأهمية، حتى لا تسقط الدولة في براثن جماعة الإخوان المسلمين الأمهر على الإطلاق في التلاعب بالديمقراطية من أجل تخريب وهدم الدول الوطنية في منطقتنا من أجل إقامة خلافتهم المزعومة.