أن تكون غنياً في دولة فقيرة أم فقيراً في دولة غنية، أيهما أفضل؟ هو سؤال المرحلة، لا سيما في ظل المقارنات الظالمة التي عقدها البعض، ليس فقط على السوشيال ميديا ولكن أيضاً في وسائل الإعلام التقليدي، بين وضع المواطن الاقتصادي في عهد مبارك، وما يعانيه المواطن اليوم من إنهاك شديد في قدرته الشرائية بسبب إجراءات الإصلاح الاقتصادي الذي سعت مصر في تنفيذها منذ نوفمبر 2016.
حيث ترنم كثيرون بالمقولة المستفزة "يا ريتنا نرجع لعهد مبارك، مش مهم البلد خربانة إدارياً وسياسياً وفيها فساد، لكن كنا عايشين وبنشتري أملاك وعقارات وسيارات ونسافر" وغير ذلك من المقارنات المجحفة واللامنطقية، التي تستهدف شيطنة أي تغيير إيجابي حدث في الحياة السياسية في مصر، وساهم في تحويلها من دولة ديكتاتورية يعيث فيها الفاسدون شرقاً وغرباً ويهمش فيها المواطن العادي في كل شيء، إلى دولة ديمقراطية للمواطن الكلمة الأولى والأخيرة في كل شئونها، ويتحمل مسؤولية إدارتها وتقرير مصيره ومصير بلده كتفاً بكتف إلى جانب صناع القرار ورؤوس الحكم.
وهنا يجب أن نعيد صياغة السؤال بشكل أخر يتفق مع لسان حال أغلب أبناء الطبقة الوسطى في مصر اليوم، وهو: كيف سيؤثر كون الدولة غنية أو فقيرة على وضعي أنا كمواطن؟ لو أني أمتلك الكثير من المال فأنا أستطيع أن أعيش الحياة التي أريدها حتى لو كانت الدولة فقيرة، فلماذا أهتم إذاً بأن تكون الدولة التي أعيش فيها غنية؟ وما الفائدة التي ستعود علي بشكل شخصي من خلال مساهمتي في توفير موارد دخل أكبر للدولة عبر تحملي الشخصي لأعباء رفع الدعم، والالتزام بدفع الضرائب، واستثمار أموالي في البنوك، بدلاً من تخزينها في المنزل مثلاً؟
بالرغم من شيوع هذا الطرح بين كثيرين في مصر اليوم، إلا أنه منطق غير سليم بالمرة، وأغلب ظني أن الدافع الحقيقي وراءه هو الخوف الطبيعي من التغيير، حيث أصبح المواطن من الطبقة الوسطى الآن مطالب بتغيير الطريقة التي تعود على إدارة حياته بها لعقود عبر الاقتصاد الموازي في ظل منظومة الفساد الشامل التي كانت تغلف مصر، إلى أن يكون جزء من نظام اقتصادي أكثر شفافية قائم على مشاركة الأعباء والمكاسب والمحاسبة بين الدولة والمواطن.
أثبتت العلوم، والتجارب الإنسانية أيضاً، أن "السعادة المادية" لا تقاس بحجم ما يحمله المرء من أموال، ولكن بمجموعة عناصر تشكل أسس "الحياة الجيدة" من مأكل وملبس وتعليم ورعاية صحية، وإن كان يستطيع المرء الحصول عليها بأقل تكلفة ممكنة، والتكلفة هنا لا تعني التكلفة المالية لشراء حياة جيدة فقط ولكن أيضاً حجم العناء الجسدي والنفسي والفرص المهدرة التي يتكبدها الإنسان لتوفير المأكل والملبس والتعليم والرعاية الصحية بأعلى جودة ممكنة، ويكون الإنسان أكثر سعادة كلما استطاع تحقيق كل هذه الأساسيات وضمان الحفاظ عليها أطول فترة ممكنة، وتزداد السعادة مع إضافة أمور ترفيهية إضافية تزيد من استمتاعنا بالحياة مثل السفر والاكتشاف والأعمال التطوعية وغيرها.
ومن هذا المنطلق، فإن المواطن الفقير في دولة غنية هو أكثر سعادة وأفضل حالاً من المواطن الغني في دولة فقيرة، من حيث توافر كل سبل الحياة الجيدة له بأقل تكلفة ممكنة ودون عناء كبير من جانبه، فضلاً على أن غنى الدولة يجعلها أكثر قدرة على مقاومة الفساد الإداري والسياسي، وبالتالي يسمح هذا بفرص متساوية لكل المواطنين بالارتقاء بمستوى معيشتهم وفق قدر الجهد والإنتاجية والمهارات المتميزة القادرين على تقديمها لإفادة المجتمع المحيط.
أنظر على مصر مثلاً، فرغم كون الطبقة الوسطى فيها غنية وكانت لعقود طويلة قادرة على تجاهل فساد الدولة والاعتماد على نفسها في شراء كل احتياجاتها الأساسية بأعلى جودة ممكنة، إلا أنها كانت تفعل ذلك عبر مصادر أجنبية؛ المأكل في مطاعم أجنبية والملبس من أفرع لمحلات وبراندات عالمية والرعاية الصحية غالباً خارج مصر أو في مستشفيات خاصة في الداخل تدعي أنها تطبق المعايير العالمية في الرعاية الصحية والتعليم في مدارس دولية أو جامعات أجنبية خاصة أو جامعات خارج مصر، وللحصول عليها كانت تدفع تكاليف باهظة؛ تكاليف مالية نظراً لارتفاع أسعارها بسبب الاستيراد وأيضاً تكاليف غير ظاهرة مثل الوقت المهدر والفرص الضائعة وعناء الحصول عليها والمحافظة على بقائها.
ومعنى ذلك أن المواطن المصري الغني مالياً، في الماضي، لم يستطع تحقيق الحد الأدنى من جودة الحياة في ظل دولة فاسدة وفقيرة، بل كان يستورد الفتات الذي يوهمه بأن حياته أحسن قليلاً مقارنةً بمن حوله، بينما المواطن المصري اليوم، رغم ضعف قدرته الشرائية بسبب قرارات الإصلاح الاقتصادي، فإن لديه فرص أكبر بكثير لتحقيق جودة الحياة والسعادة المادية.
مصر بالفعل في طريقها لأن تكون دولة ذات اقتصاد قوي، احتياطي النقد الأجنبي فيها وصل لمعدلات غير مسبوقة، والمؤشرات الاقتصادية كلها والمراقبين الاقتصاديين في كل العالم يتوقعون حدوث طفرة في الاقتصاد المصري الفترة المقبلة بسبب إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي التزمت بها الدولة حتى الآن، كما تمكنت الحكومة من توفير موارد دخل جديدة ومتنوعة، منها البترول والثروة السمكية، إلى جانب الموارد التقليدية الغير مستقرة والتي تتأثر بالتقلبات السياسية مثل السياحة والمساعدات الأجنبية والقروض.
وهذا يعني أنا المعاناة التي نمر بها الآن بسبب الإصلاحات الاقتصادية، لم تتسب في سلب جودة الحياة التي لم تتوفر لنا أصلاً، بل هي تهدف إلى الخروج بنا من الوهم إلى الواقع، ثم تحسين وتطوير هذا الواقع لتحقيق السعادة المادية المرجوة والرخاء الاقتصادي الذي لم يسبق وتحقق في أي عهد سبق على المصريين، ربما تكون هذه الإصلاحات الصعبة هي فرصتنا الحقيقية لتغيير التاريخ الاقتصادي لمصر للأبد. إن حالنا اليوم أحسن بكثير مما نظن.