لا أنكر أني أشعر بإحباط تجاه الأعباء التي تضعها الحكومة على المواطن منذ بدء الإصلاحات الاقتصادية في نوفمبر 2016، حالي في ذلك هو حال كثير من المصريين، خصوصاً من الطبقة الوسطى، التي تعاني من تراجع واضح في قدراتها الشرائية كنتيجة مباشرة لهذه الإصلاحات، بشكل أصبح يؤثر على مستوى رفاهية المعيشة التي تعودنا عليها لعقود.
لكني أيضاً أؤيد تماماً السياسات التي تقوم عليها هذه الإصلاحات، ومقتنعة بدوافع الحكومة في تطبيقها، فلم يكن أمامنا حل أخر سوى الاقتراض من صندوق النقد، وبالتالي تطبيق هذه الإصلاحات الصعبة، لأن البديل كان هو الاستمرار في الاعتماد على المنح المقدمة من الدول العربية الثرية، وهو أمر غير مضمون استمراره على المدى الطويل، أو الاستمرار في الاستدانة للدول الغربية التي تقدم لنا مساعدات اقتصادية وعسكرية محملة بشروط تضر بالسياسة الداخلية والخارجية لمصر، خصوصاً على مستوى تحقيق الأمن والاستقرار وبناء قدراتنا العسكرية ومحاربة الإرهاب.
أصبح الأمر فعلاً في غاية الصعوبة على المواطن، فرغم النجاحات التي أحرزتها الحكومة حتى الآن في مجال الإصلاحات الاقتصادية، والتي تؤكد عليها كل الدراسات المتخصصة التي نشرت في هذا المجال، مؤخراً، ومنها دراسة بجامعة هارفارد صدرت قبل أسابيع تؤكد على أن مصر واحدة من أسرع الاقتصاديات نمواً على مستوى العالم، ورغم الأخبار اليومية عن زيادة احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، واستمرار مصر في إقامة وإنجاز مشاريع تنمية وبناء، وعقد شراكات مع دول أوروبية وشرق أوسطية مجاورة في مشروعات طاقة، إلا أن أي من هذه الإنجازات لم ينعكس حتى الآن على تطوير حال المواطن نفسه، بل إن معاناة المواطن في تدبير احتياجاته اليومية من مأكل وملبس ومشرب وانتقالات تتزايد، ولعل الأزمة التي أثارها قرار رفع تعريفة ركوب مترو الأنفاق، قبل يومين، خير دليل.
فقد أثار قرار وزارة النقل حول رفع سعر تذكرة مترو الأنفاق، من جنيه واحد إلى سبعة جنيهات بحد أقصى حسب عدد المحطات التي يستخدمها الراكب، أزمة حقيقية في كثير من البيوت المصرية، وما كانت لتحدث هذه الأزمة لو أن الوضع الاقتصادي للمواطنين كان كسابق عهده قبل الإصلاحات الاقتصادية، لكن هذا التغير في تعريفة ركوب المترو – رغم ما يحمله من تبرير منطقي – كان بمثابة القشة التي تكاد أن تقصم ظهر المواطن، الذي أنحنى ظهره بفعل قسوة الإجراءات التي ترتبت على تعويم الجنيه ورفع الدعم عن موارد الطاقة، ووقع بسببها فريسة سهلة في يد التجار الذين يسيطرون وحدهم على حركة الأسعار في السوق، دون أي رقابة من جانب الدولة، التي بدورها حاولت أن تعوض المواطنين عن جشع التجار من خلال توفير السلع الأساسية بأسعار أرخص عبر المصانع والمزارع التابعة للقوات المسلحة.
ولعل السبب الرئيسي في هذه المعاناة هو الفجوة الضخمة التي حدثت بين متوسط دخل المواطن وبين ما هو مطلوب منه تحمله من تبعات الإصلاح الاقتصادي، حيث لم تقدم الحكومة للمواطن ما يوازيها من سياسات ترفع من متوسط دخله بالحد الأدنى الذي يمكنه من التكيف مع هذه الأعباء، وأكثر الفئات المضارة هنا هي الطبقة الوسطى التي تعتمد على نفسها بشكل شبه كامل في توفير احتياجاتها الأساسية من مأكل وملبس وانتقالات ورعاية صحية وتعليم.
وتكمن الخطورة هنا في أن تهديد الطبقة الوسطى بهذا الشكل، قد يترتب عليه إضطراب في المشهد السياسي، قد لا تحتمله مصر بتعقيدات ظروفها الداخلية وعلاقاتها الدولية في الوقت الراهن، هذه الطبقة هي التي قادت الحراك السياسي في مصر من ديكتاتورية مبارك إلى أول طريق الديمقراطية اليوم، وهي التي كانت العنصر الأكثر فاعلية في صناعة ثورتين في أقل من أربعة أعوام، وهي التي شاركت في الاستحقاقات الانتخابية، وهي التي دافعت عن استقرار مصر وتماسكها في مواجهة جماعات الإسلام السياسي والتنمر الدولي الذي تعرضت له مصر بعد إسقاط الإخوان من الحكم، وهي التي ما زالت تدعم الجيش والشرطة في مواجهة الإرهاب، إن الطبقة الوسطى في مصر هي عمود الخيمة وضعفها أو سقوطها لن يثمر خيراً على أمن واستقرار الوطن بأكمله.
وعلى ذكر الرئيس السابق مبارك، سأتوقف هنا عند بعض المقارنات الغير دقيقة التي عقدها البعض عن وضع مصر الاقتصادي في عهده ووضعنا الاقتصادي الآن، خصوصاً الإدعاء بأن حال المواطنين، تحديداً من أبناء الطبقة الوسطى، كان أفضل في عهد مبارك، بينما الحقائق تثبت عكس ذلك، فقد لجأ مبارك لسياسة التخدير الاقتصادي للمواطنين لضمان بقاؤه في الحكم أطول فترة ممكنة، دون أن يحاسبه أحد على الفساد المالي والإداري الذي كان يمارسه النظام وقتها بلا أي حرج، والذي أوصل البلاد للحالة المزرية التي ندفع ثمنها اليوم.
فلم يجمع مبارك الضرائب من رجال الأعمال ولا أصحاب المهن الحرة، بل كان ييسر لخاصته منهم احتكار بعض السلع والتهرب من الجمارك والتلاعب في تقارير الضرائب بشكل أحدث فجوات ضخمة في البناء الاقتصادي، ولم يسمح للجنيه بأن يظهر بقيمته الحقيقية في السوق العالمي، وبالتالي إزدادت حركة الاستيراد على حساب الإنتاج والتصدير، وعزف الناس عن التعامل مع البنوك وركنوا إلى تخزين الأموال بشكل أخل بإمكانية التعرف على التصنيف الاقتصادي الحقيقي للمواطنين وسمح باستثمار الأموال بطرق غير شرعية بعيداً عن إطار الدولة، وأفسحت هذه السياسات التخديرية المجال للسوق السوداء، وسوق العملة، لتزدهر على حساب السوق الرسمي، والذي ترتب عليه أيضاً معدلات فقر كبيرة وانتشار العشوائيات خصوصاً في الصعيد والمحافظات البعيدة عن العاصمة.
وكانت نتيجة كل ذلك الفساد في عهد مبارك، هو شعور المواطن بالظلم، ومن ثم تحرك الشعب لخلع مبارك ونظامه، وبمجرد سقوط النظام أنكشف أمامنا وابل من الإنهيارات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي عمينا عن رؤيتها في إطار سياسة التخدير التي وقعنا فيها، وهذا تحديداً هو ما تحاول القيادة السياسية الحالية إصلاحه.
إن الجزء الأكبر من معاناة المواطن الاقتصادية اليوم سببه ببساطة هو أننا ندفع ثمن صمتنا على عقود من فساد مبارك، ولعل هذا هو التفسير الأقرب للمنطق على صبر المصريين حتى الآن على سياسات الحكومة التي أثقلت كاهلهم، خصوصاً مع الثقة الكاملة من جانب المواطنين في أن القيادة السياسية الحالية، والرئيس السيسي نفسه، لم ولن يمارس الفساد، بل يحاربه على كل مستوياته، وأنه مخلص تماماً في سعيه نحو الإصلاح.
لكن مع كل ذلك، يبقى الحذر قائماً بضرورة التنويه على أن مشروع الإصلاح الاقتصادي الحالي يجب أن يضع في اعتباره آلية تمكن المواطن من التكيف مع إجراءاته القاسية، وتقدم للمواطنين خطة زمنية واضحة يستطيع بها المواطن قياس جدوى هذه الإصلاحات على تحسين ظروف معيشته، وتكفل الحفاظ على استقرار الطبقة الوسطى عند الحد الأدنى من مستوى الرفاه الذي يمكنها من المشاركة الفاعلة في التطور الديمقراطي والتقدم الاجتماعي، بما يضمن بالتالي عدم إرباك مسار التقدم السياسي والتنموي والحفاظ على استقرار الوطن وأمنه.