على مدار عقود، أصبحت شبه جزيرة سيناء بفعل ما تتمتع به من خصائص جغرافية واستراتيجية مرتعاً للأنشطة الإجرامية على اختلاف أشكالها، بدءً من تهريب المخدرات والأسلحة بشكل غير قانوني، صعوداً إلى إيواء التنظيمات الإرهابية الأكثر خطورة. إلا أن الهجوم الإرهابي الأخير على نقطة رفع مياه في غرب سيناء يمثل تحولًا لافتاً في سلوك الجماعات الإرهابية التي تسكن شبه الجزيرة المصرية الضخمة منذ عام ٢٠١٣. على وجه التحديد، فإن التوقيت والموقع المستهدف لهذا الهجوم الأخير هو بمثابة دقات إنذار تستدعي القلق بشأن أننا ربما نشهد ولادة توجه إرهابي جديد في تلك المنطقة الساخنة.
في يوم السبت ٧ مايو، أعلن المتحدث الرسمي للقوات المسلحة المصرية أن مجموعة من العناصر التكفيرية هاجمت نقطة رفع مياه في غرب سيناء، بالقرب من الحد الشرقي لقناة السويس. أسفر الهجوم عن استشهاد ضابط وعشرة جنود من الجيش المصري، بالإضافة إلى إصابة خمسة أفراد من العاملين في الموقع. وقد أوضح بيان المتحدث العسكري أن الجيش بدأ على الفور في ملاحقة العناصر التكفيرية وتمكن من عزلها في منطقة بعيدة في داخل سيناء. وفي صباح اليوم التالي، عقد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، اجتماعًا تحت رئاسته مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لمناقشة تبعات الهجوم وخطة القوات المسلحة في مواصلة الحرب على الإرهاب في سيناء.
كان الجيش المصري، بالتعاون مع قوات الأمن التابعة لجهاز الشرطة، قد أطلق في فبراير ٢٠١٨ حملة موسعة تستهدف القضاء على معاقل الإرهاب في سيناء ومنطقة الدلتا شمال مصر، بعنوان "العملية الشاملة سيناء". قبل نحو خمسة أشهر من انطلاق العملية، كان بلدة بئر العبد في شمال سيناء قد تعرضت لهجوم مروع قام به بعض مسلحين مجهولي الانتماء على أحد المساجد أثناء صلاة الجمعة، مما أسفر عن قتل ٣٠٥ مواطن وإصابة ١٢٨ آخرين. وقد أضطر هذا الهجوم الدموي الدولة المصرية آنذاك فرض حالة الطوارئ، والتي استمرت أربع سنوات كاملة، إلى حين قرر الرئيس السيسي في أكتوبر ٢٠٢١ إيقاف العمل بها كمؤشر على نجاح العملية العسكرية الشاملة وجهود مكافحة الإرهاب بشكل عام في تحقيق أهدافها.
في حفل الإفطار الرسمي الذي استضافه الرئيس السيسي في الأسبوع الأخير من رمضان، ، يوم ٢٦ أبريل، كانت قضية الأمن والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في سيناء من أهم الموضوعات التي تم تناولها، حتى أنه ولأول مرة يذكر الرئيس السيسي أرقام محددة عن القوات والعتاد الذي أنفقته القوات المسلحة في سبيل تحقيق الأمن في سيناء طيلة السنوات السبع الماضية، حيث قال الرئيس السيسي بعد تحية زعماء قبائل سيناء الحاضرين في الحفل على دعمهم لمهمة الجيش المصري على مدار تلك المعركة الطويلة: "نحن نهدف إلى تحقيق تنمية حقيقية في سيناء. لقد استطعنا تحقيق الاستقرار هناك، لكن دفعنا ثمن غالي لتحقيق ذلك... قد اضطر الجيش المصري وقوات الشرطة التضحية بـ ٣,٢٧٧ من ابناءهم، فضلاً على ١٢,٢٨٠ تعرضوا لإصابات مستدامة منعتهم من العودة إلى الخدمة".
لكن، مع الأسف، بعد أسبوع واحد تقريباً من خطاب الرئيس المصري عاد الإرهاب ليطل برأسه في سيناء، وإن كان بشكل ولون جديد. استخدم بيان المتحدث العسكري بشأن الهجوم الأخير في غرب سيناء كلمة "عناصر تكفيرية" لوصف المسلحين الذين ارتكبوا الواقعة. في العادة، يشير مصطلح "التكفيريين" إلى الإرهابيين الإسلاميين، الذين يتبنون عقيدة متطرفة تصنف الدولة الوطنية العلمانية على أنها "دولة كافرة"، وبالتالي تحل قتل العسكريين بها وكذلك المدنيين من غير المسلمين.
لمدة تقارب اليومين، امتنعت أي من التنظيمات الإرهابية المعروفة، سواء المحلية أو الإقليمية، عن إعلان مسؤوليتها عن الهجوم الإرهابي الذي وقع في غرب سيناء. ثم، في ساعة متأخرة من يوم الأحد ٨ مايو، خرج إرهابيو الدولة الإسلامية (داعش) على مجموعة تلجرام الخاصة بهم على الإنترنت، بإعلان مقتضب يدّعون فيه أنهم منفذو العملية، لكنهم لم يقدموا أي تفاصيل أخرى ولم ينشروا لقطات من العملية كما يفعلون في العادة. هذا، في الواقع، يثير الشكوك حول مصداقية ادعاء داعش، ويرفع من احتمالية أن داعش فقط يحاول الاستفادة من الموقف بنسب هذا الهجوم اللقيط، الذي لا يريد أحد تبنيه، إلى نفسه، ربما بغرض استعادة صورة التنظيم في أعين داعميه ومموليه.
في الواقع، لم يكن تنظيم داعش موجودًا أبداً بشكل حقيقي داخل سيناء. مجموعات الإرهابيين الذين يسمون أنفسهم بـ "ولاية داعش سيناء" هم في الأصل جماعات إرهابية محلية منظمة ذاتيًا، تحت إمرة جهاديين مسلحين من مصر وقطاع غزة، قرروا في عام ٢٠١٥، مع تصاعد الملاحقات العسكرية المصرية لهم، على أن يتحدوا في تنظيم واحد ويبايعوا تنظيم داعش في الشام الذي كان في أوج نشاطه وقتها. لكن تجدر الإشارة إلى نشاطهم قد تقلص بشكل كبير في السنوات الثلاث الأخيرة، منذ إطلاق العملية العسكرية الشاملة في ٢٠١٨، وأيضاً بسبب هزيمة أسيادهم من تنظيم داعش في الشام على أيدي الأكراد.
بصرف النظر عن داعش، من غير المحتمل أيضًا أن يكون منفذي الهجوم من جماعة الإخوان المسلمين أو حركة حماس، مثلما اقترح بعض المراقبين ضمن ردود الفعل الأولى على الهجوم. من ناحية، تعاني جماعة الإخوان المسلمين حاليًا في حالة من الوهن الشديد، بسبب ندرة التمويل وتكاثر الانقسامات الداخلية التي قوضت تماسك هيكل الجماعة وتسلسلها الهرمي. بعبارة أخرى، لا تمتلك جماعة الإخوان المسلمين، في الوقت الحالي، الموارد أو القدرات التي تمكنها من تخطيط وتنفيذ هجوم كهذا. بالمثل، فإن حركة حماس أيضاً مستبعدة كمشتبه به، على الرغم من أن لديها القدرة والأدوات التي تمكنها من تخطيط وتنفيذ هجمات من هذا النوع، إما بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال العناصر الإرهابية التابعة لها في شمال سيناء. لكن رغم ذلك، فإن الواقع السياسي الحالي يفرض على حماس تجنب أي فعل من شأنه تعقيد علاقتها مع الدولة المصرية، حيث أصبحت مصر، على الأقل منذ الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس في مايو ٢٠٢١، عنصر فاعل ومؤثر بقوة في الأجندة السياسية والاقتصادية والأمنية داخل غزة، إما عبر التنسيق المستمر على المستوى الأمني والمخابراتي، أو من خلال مشاريع اقتصادية عملاقة تقودها مصر في القطاع، مثل "مبادرة إعادة إعمار غزة" التي خصصت لها مصر نصف مليار دولار العام الماضي.
بخلاف ذلك، فإن النظر عن قرب في توقيت وموقع الهجوم الإرهابي الأخير قد يعطينا فكرة عن الجناة الحقيقيين وأغراضهم، بما قد يساعد في توقع خطواتهم التالية والاستعداد لردعها. هذه هي المرة الأولى منذ عام ٢٠١٣، التي تشهد هجومًا إرهابيًا مميتًا بالقرب من المنطقة الاستراتيجية الاقتصادية لقناة السويس، في نقطة بعيدة بغرب سيناء عن المسرح التقليدي للتنظيمات الإرهابية في شمال شرق شبه الجزيرة. طوال السنوات السبع الماضية، لم تتمدد الهجمات الإرهابية في سيناء إلى ما وراء الحدود الجغرافية للمناطق الشمالية الشرقية وبالكاد المناطق الوسطى الشرقية. في أقصى الشمال الشرقي من شبه جزيرة سيناء، بالقرب من حدود رفح مع قطاع غزة، تتواجد أغلب – إن لم يكن جميع – التنظيمات الإرهابية، حيث يمكنهم بسهولة من هناك تهريب الأسلحة والمؤون، وتلقي العلاج الطبي في غزة لو استلزم الأمر. في الماضي القريب، استضافت حماس بالفعل بعض الإرهابيين المقيمين في سيناء وقدمت لهم الدعم الطبي.
إذاً، ما الذي حدث بالضبط ومن هم الجناة الحقيقيين وراء هذا الهجوم الدموي الأخير في سيناء؟ هناك طريقتان لشرح الأمر. الطريقة الأولى تفترض أن بعض من الجماعات الإرهابية المعروفة في شبه الجزيرة انتقلت من المنطقة الشمالية الشرقية، حيث يقيمون وينفذون عملياتهم، إلى المنطقة الغربية لشن هذا الهجوم. لكن بنظرة واحدة على الخريطة يمكن بسهولة إثبات خطأ هذه الفرضية. شبه جزيرة سيناء هي في الأصل بقعة جغرافية ضخمة، مليئة بالجبال والمناطق الوعرة. هناك مسافة طويلة للغاية (حوالي ٣٠٠ كيلو متر) بين منطقة شمال-شرق والمنطقة الغربية حيث توجد قناة السويس. ناهيك عن التضاريس الجبلية الوعرة التي تفصل بين النقطتين. أضف إلى صعوبة الحركة، هو أن تحرك العناصر الإرهابية، ذهاباً وإياباً، على طول تلك المسافة وعبر تلك التضاريس يجعلهم فريسة سهلة الاصطياد إما بواسطة القبائل المحلية أو بواسطة قوات الجيش المصري المنتشرة بكثافة في جميع أنحاء سيناء.
أما الطريقة الأخرى للإجابة على السؤال أعلاه هي افتراض ظهور جماعة إرهابية جديدة في غرب سيناء، بالقرب من المدن المحيطة بقناة السويس أو من داخلها. على الأرجح، هذه المجموعة تنسق بطريقة ما مع التنظيمات الإرهابية الموجودة في شمال شرق سيناء، لكنها تتحرك بلا ضجيج ودون الإعلان عن نفسها، على الأقل في الوقت الراهن. ربما أحد الزوايا التي قد تدعم صحة هذا الافتراض هو ملاحظة أن هذه الجماعة الإرهابية الجديدة تتصرف بطريقة تختلف إلى حد ما عن التنظيمات التكفيرية المعروفة في هذه المنطقة.
على سبيل المثال، هذه الجماعة الإرهابية الجديدة لا تنظر إلى القوات المسلحة المصرية أو المواطنين من غير المسلمين على أنهم الهدف الرئيسي مثل الجماعات التكفيرية الأخرى. بدلاً من ذلك، فإن أهدافهم الرئيسية هي إتلاف مرافق ذات أهمية استراتيجية للاقتصاد المصري. ربما لم يكن مصادفة أنه قبل أسبوع من مهاجمة نقطة رفع المياه شرقي قناة السويس، قام مسلحين مجهولين بتفجير أنبوب غاز يمر عبر بلدة بئر العبد شمال سيناء. يعد الغاز الطبيعي وقناة السويس من أهم القطاعات التي تضخ دخلاً مستقرًا ومستدامًا في الاقتصاد المصري، الذي يعاني حاليًا من أثار الأزمة العالمية المترتبة على الحرب الروسية الأوكرانية.
إذا ثبت صحة التحليل المفصل أعلاه، يجب أن نشعر بالقلق لأن هذا لن يكون الهجوم الأخير من هذا النوع. ستستمر هذه الجماعة الإرهابية الناشئة في شن هجمات مماثلة على مرافق اقتصادية مهمة أخرى في مناطق قد لا تقتصر جغرافياً على شبه جزيرة سيناء. إن قدرتهم على الوصول إلى نقطة بعيدة مثل شرق قناة السويس، تشير إلى أن لهم تواجد بشكل أو بأخر في المحافظات الداخلية، وبالتالي لديهم القدرة على التحرك بشكل أعمق، تحديداً باتجاه منطقة الدلتا وعلى طول الساحل الغربي لمصر في البحر المتوسط. لذلك، من المهم أن تأخذ الدولة والقوات المسلحة المصرية هذا الافتراض في الاعتبار، وأن تبدأ في التحقيق في حجم ونطاق هذا التوجه الإرهابي الجديد، في إطار معركتها الأكبر لمكافحة الإرهاب.