قبل أيام من الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى فرنسا، يوم السادس من ديسمبر، كان هناك موضوع رئيسي فردت له وسائل الإعلام على اختلاف مواقعها ولغاتها مساحات كبيرة، وترقب المتابعون من كل أنحاء العالم مناقشته بين الرئيس المصري ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
لا يرتبط هذا الموضوع بالتعقيدات الإقليمية التي تورطت فيها مصر وفرنسا في الأشهر القليلة الماضية، وعلى رأسها التوتر الدائر في شرق البحر المتوسط والقائمة الطويلة للأزمات السياسية والأمنية التي لا تنتهي في دول الشرق الأوسط، ولا يتعلق هذا الموضوع أيضاً بمكافحة الإرهاب في أوروبا أو التحديات التي فرضها انتشار فيروس كورونا على العالم، ولا حتى الاستثمارات الاقتصادية والتعاون العسكري بين البلدين، لكن كان هذا الموضوع الذي كان في نظر الإعلام والرأي العام العالمي أهم من كل ذلك، وهو الموضوع الذي لا ينفك لقاء بين الرئيس المصري وأي من نظرائه في دول الغرب عن إثارته، هو حالة حقوق الإنسان في مصر.
"لن أضع شروط على تعاوننا في مجال الاقتصاد والدفاع مع مصر بسبب هذه المواضيع، علينا احترام سيادة كل دولة أثناء حواراتنا معها، سياسة الحوار أفضل من سياسة المقاطعة لأن هذا يضر قدرتنا على مكافحة الإرهاب والعمل من أجل الاستقرار الإقليمي" كان هذا رد الرئيس الفرنسي ماكرون على صحفية سألته، أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس السيسي في قصر الإليزيه، عن إذا ما كان بإمكان فرنسا ربط الاستثمارات الاقتصادية والعسكرية في مصر بشروط تتعلق بتطوير حالة حقوق الإنسان في البلاد، وأضاف ماكرون "مثل هذه المشروطية لن تسمح بالتقدم في الأمور الإقليمية، بل تقطع النقاش الدائر فيما بيننا، وتضعف واحد من حلفاءنا المهمين في حربنا على الإرهاب واستقرار المنطقة، ولن تجدي كذلك في تطوير حقوق الإنسان."
لا شك أن هذا الرد البرجماتي من قبل الرئيس ماكرون جاء محبطاً لعدد لا بأس به من الذين يعتمدون على استخدام ملف حقوق الإنسان في ممارسة ضغوط سياسية على مصر، عبر منظمات حقوقية دولية ومحلية ذات صلات بدول تناصب العداء الصريح للدولة المصرية مثل قطر وتركيا، على خلفية نجاح الرئيس السيسي في القضاء على أسطورة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتصدي القيادة السياسية المصرية لمشروع الإسلام السياسي والإرهاب في منطقة الشرق الأوسط ككل. فقد قام هؤلاء بحملات إعلامية مكثفة سبقت زيارة الرئيس السيسي لفرنسا، كان بعضها يطالب بإلغاء الزيارة تماماً، أو على الأقل إحراج الرئيس المصري والضغط عليه عبر إثارة قضايا حقوقية داخلية.
ويتفق ذلك كثيراً مع ما قاله الرئيس السيسي، في المؤتمر الصحفي ذاته، من حيث أن الدولة المصرية تحارب تنظيم إسلامي متطرف يخرب في مصر منذ قرابة قرن كامل من الزمان، في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وبناءاً عليه فإنه "ليس من الإنصاف وصف القيادة السياسية في مصر على أنها مستبدة لأنها تحارب التطرف" المتمثل في جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية الأخرى.
ومع هذا، لا يمكن لأحد أن يدعي أن مصر دولة مثالية تطبق كافة مبادئ حقوق الإنسان، بل إن لدينا قصور في هذا الملف، لا تنكر الدولة وجوده وتحاول قدر المستطاع إصلاحه في ظل تحديات سياسية وأمنية لا حصر لها، مع العلم أن تأخر حالة حقوق الإنسان في مصر هو بعض من إرث الفساد والاستبداد الذي ورثناه من عهد مبارك، وتعي الدولة المصرية تماماً خطورة هذا الأمر، خصوصاً أن هذا الملف المعقد سيظل محور أساسي ومهم في تشكيل العلاقات بين مصر والدول النافذة في المجتمع الدولي، وسيظل ورقة مؤثرة يحاول المغرضون استخدامها للإضرار بمصالح مصر السياسية والاقتصادية وربما أيضاً العسكرية، فقد سبق واستخدمت الإدارات الأمريكية المختلفة قضايا حقوق الإنسان كمبرر لتجميد المساعدات العسكرية أو ممارسة ضغوط سياسية على الدولة في مصر.
إن المشكلة الحقيقية التي تمنع مصر عن إحراز تقدم كبير في ملف حقوق الإنسان، رغم الجهود الصادقة المبذول في هذا الإطار، ليست في عدم حرص أو صدق نوايا القيادة السياسية، والرئيس السيسي نفسه، في إحراز تطوير في هذا الملف المعقد، ولكن جوهر المشكلة يكمن في سوء اختيار الأليات والأفراد المنوط بهم تطوير هذا الملف المهم، وهو الأمر الذي يجب على الدولة المصرية تداركه وإصلاحه كخطوة أولى نحو تطوير ملف حقوق الإنسان في المرحلة القادمة، خصوصاً على مستوى الحقوق المدنية والسياسية، بقدر النجاح الذي حققته الدولة على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في السنوات القليلة الماضية.